انتخابات أميركا النصفية... شروق "الرئيس الصُدفة" و"موت الرئاسة"
المتنبئون الانتخابيون، ذوو الحس التقليدي، توّقعوا أن تكون هذه الانتخابات، حفل "باربيكيو" أحمر (الحزب الجمهوري)، تُشوى فيه حظوظ الزُرق (الديمقراطي)، في مَجلِسيْ النوَّاب والكونغرس. هكذا سيكون ذقن الرئيس الأميركي جو بايدن التشريعي، طيلة العامين القادمين، حليقاً بموسى جمهورية.
الزُرق، يحاوِلون تخفيف حجم البقعة الجمهورية، في مُحيط توقعات نتائج الانتخابات النَّصفيَّة. الكاتب مايكل مور، مؤلِّف الكتاب الشهير رِجال بيض أغبياء، يجِدُ أنَّ فريقه الأزرق سيفوز في الثامن من نوفمبر/ تشرين الثاني، مُحافِظاً بأقلِّ تقدير على عدد مقاعِده في الكونغرس، رغم معرفته بأنَّ كسب الحُمر لمقعدٍ واحد كفيلٌ بخفض قيمة تنبؤاته المستقبليَّة. لكن من يستطيع أن يكون مُحايداً في زمن الحروب الثقافية التي تشهدها البلاد الأميركية. الجميع مُضطر للدخول في نوبةِ حماسةٍ مُفرِطة من ظاهرة التجمع حول العلم "الحزبي" تحديداً.
فيلان وطابع بريدي
خطرُ نصفيَّة 8 نوفمبر/ تشرين الثاني لا يأتي من نتائِجها. طبعاً، غالِباً ما يُعبَّر عن هذا الخطر بكلمةٍ زئبقية: الاستقطاب. هناك حقيقة بحجمِ فيلين في غُرفة، لا فيل واحد كما تذهب الحكمة المأثورة. الأول هو موت "استمرارية الرئِاسة".
نائب الرئيس في ثُمانيَّة سنين بوش الابن، ديك تشيني، عبَّر عن ذلك الخوف، بالعودة إلى تعقيدات الولاية الرئاسيَّة الثانية لـ ريتشارد نيكسون. فضيحة ووتر غيت، كانت الحدبة التي شطرت ظهر هذه الولاية، مؤديةً إلى حقن مؤسسة الرئاسة بـ "الرئيس الصُدفة"، جيرالد فورد، بحسب تعبير الكاتب بيتر بيكر. فكرةُ ديك تشيني عن كيفية الحِفاظ على "استمرارية الرئاسة" كانت نوبة فكريَّة مؤجَّلة، من رئاستِه لموظفي البيت الأبيض، في عهد الرئيس جيرالد فورد. الأرجح أنّها كانت إشراقة مُزيَّفة، لجسِّ حظوظه كرئيسٍ مُستقبلي.
الجميع مُضطر للدخول في نوبةِ حماسةٍ مُفرِطة من ظاهرة التجمع حول العلم "الحزبي" تحديداً
الحُمر والزُرق قد يعتبِرون نوبة تشيني نوعاً من محاولة ملء قيمة منصب نائب الرئيس بشيءٍ خيالي، غير "جيب من البُصاق الدافئ"، وهذا تعبيرٌ يشبهُ طابعاً بريدياً، يلتصِقُ أبداً بمظروف الحديث عن المنصب.
قيمة هذا الطابع لا تساوي سنتاً سياسيَّاً، في أروقة واشنطن، رغم أن نائب الرئيس قد أفلح في نيلِ الرِئاسة خمس عشرة مرَّة تقريباً، بعد ولاية الرئيس أندرو جاكسون، والتي انفصل عندها الحزب الجمهوري الديموقراطي إلى حزبٍ جمهوري وآخر ديموقراطي. كُنت قد كتبت عن ذلك في 2014، وأشرتُ إليه مِراراً، خلال السنين التالية.
"جيبُ البُصاق الدافئ" هذا يمتلِكُ ميّزةً مُهمة: إنَّهُ الفأر الصغير في زاوية البيت الأبيض. لا يفعلُ عموماً الكثير، لكنه يرى أكثر مما لم يفعل. الأهم هو أنه قادِرٌ على خلقِ توازناتٍ أكثر من سلفِه. يبدو طريق السياسات أمامه مألوفاً.
الأمر ليس غريباً البتَّة. نحنُ نتحدَّث عن مؤسسة إمبراطورية، لم يجلس على عرشِها البيضاوي سوى ستة وأربعين من الأباطرة. أولئك الذين نرى مساحيقهم الرئاسيَّة، وننسى سحناتِهم الإمبراطوريَّة. أجِدُ أنَّ عالم السياسة جورج فريدمان كان مُصيباً عندما نصح المؤسسة السياسية الأميركية، في كتابه المائة عام القادمة، بأن تُزيل الالتباس عن وعي اليانكي العادي، لتودِعهُ سِّراً مفادُه: أنت مواطِنٌ إمبراطوري خارِج البلاد، وجمهوريٌ داخِلها.
ترامب بجعة بوش السوداء
الفيل الثاني، أو "البجعة السوداء"، وهو عنوان كتاب لنسيم طالب، أصبح عبارةً عالميَّة، تسِمُ التوقعات المستقبلية، بأنها أكثر البضائع رداءةً. الرئيس الخامس والأربعين، دونالد ترامب، كان بجعتي السوداء. نسف قراءتي المستقبليَّة، بأن يمتلِك "الديلاوري" بايدن (نسبة إلى ولاية ديلاور الأميركية) هذا الرقم.
ترامب بالطبع ليس جديداً جدّاً كما يبدو. هو نُسخة مُقلَّدة من جورج بوش الابن. ما عليك إلَّا أن تذهب إلى كتاب بيتر بيكر عن سنوات بوش الابن وتشيني في البيت الأبيض؛ لتجِد الأدلَّة!
ترامب بِلسانه الأوتوماتيكي السريع دائماً ما جندلَ المُنافسين
لقد نجح الأول تسويقياً وأفضل من الأصل في أمورٍ كثيرة. مثلاً، منتجع مارالاغو أصبح شبيهاً بضيعة الفيس بريسلي الشهيرة: "غريس لاند" للجمهوريين. ترامب بِلسانه الأوتوماتيكي السريع دائماً ما جندلَ المُنافسين. هذا السريع، ذو السُلطات الرِئاسية، كان مصنعاً لإنتاج سياسة شعبيَّة، لاستفزاز الديمقراطيين، الليبراليين، وكلّ الكائنات البعيدة عن مارالاغو: "أملك الليبراليين". باختصارٍ مُفيد: أصبحت نقائِصُ الحُمر نوعاً من المطاط، يُحصِّنُ معاقِل الجمهوريين.
ترامب كان نوعاً ما قريباً من شخصية الأمير ميشكين الروائية التي ابتدعها الروائي الروسي الشهير فيودور دوستويفسكي (رواية الأبله) حيثُ جاء فجأةً إلى البيت الأبيض بلا حسبٍ ونسبٍ سياسي، واقِعاً على رجليه فوراً، كالأمير مي كين في سانت بطرسبورغ.
أغرى ذلك، وعلى أقلِّ تقدير، حُكَّام الولايات الجمهوريَّة بأن يفهموا ترامب كواحدٍ منهم تقريباً. حُكَّام الولايات الأميركية عموماً معروفون جيَّداً، وغالباً ما يكونون ذوي شخصياتٍ مُتفرِّدة. ترامب يبدو بذلك حافِلة مجانية، تستطيعُ إنزالهم عند محطة البيت الأبيض.
كان وقود هذه الحافلة المجانية سياسة الهِويَّات الفرعيَّة التي استغلها الزُرق في صراعِهم الانتخابي مع الحُمر في انتخابات 2020. الكاتب الأميركي، فرانسيس فوكوياما، المشهور بمؤلِّفه نهاية التاريخ، كان واحِداً من الذين حذَّروا بشدَّة منها. هذه السياسة، أثبتت وبما لا يدعُ مجالاً للشك أنّها: أنيابٌ مفترِسة لا طواحِن للعُقد الحادَّة في الفم السياسي للحزبين.
اشتراطات العيش الإنساني المُشترك، لا تتحقق بطاعةٍ سوفييتية يُجبر الآخر عليها، ولا بفيتو ديموقراطي على صورة العالم
الهيكل العظمي لخطرِ نصفيَّة 8 نوفمبر/ تشرين الثاني أنها دفعت الحُمر والزُرق إلى تحويل الولايات الأميركية إلى معاقل حزبيَّة نقيَّة. أيضاً ورغم أنف الاستطلاعات، واستراتيجي حملة جورج الابن الانتخابية ماثيو دود؛ فإنَّها ستقضي على دواء معالجة الاستقطاب السياسي؛ "الصوت الانتخابي غير المحسوم" (الجميع اعتبرهُ ديناصوراً انقرضت آثارُه في الصندوق الانتخابي)، والذي معناه أنَّ هناك فُرصة خمسين في المائة لكلا الحزبين بالحصول على دعم الديناصور.
اختفاء هذهِ الأصوات سيدفع الحزبين إلى جعل برامجهما الحزبية مُتسِعة جدّاً. غالباً ما سيكون إطارُها الاقتصاد، بتفسيراتٍ حزبيَّة مُمالئة بشكلٍ أخرق لقاعدة الناخبين. كذلك ستدفع الحزبين إلى اتباع منطق شركة بلاك ووتر، في سياساتِها الخارجيَّة. باختصار: عرض مصالحها العالميَّة لـ "التلزيم الجيواستراتيجي"، سواء للحلفاء أو الأعداء.
أتمنى أن أكون مُخطِئاً، وأن يكون العالم السياسي جوزيف فرانكل مُحقَّاً: "إنَّ الدول المستقرة الغنية ذات السكان البيض، قد تجد قدراً كافياً من التضامن فيما بينها، يدفعُها إلى الوقوف صفّاً واحداً ضِدَّ بقية العالم، وإلى تجريد الخلافات الإيديولوجية فيما بينها من الأهمية السياسية".
أُمنيتي الحقيقية تتلخصُ بأن يتوقَّف الحزبان عن: تصدير المفاهيم الأميركية لـ الهِويَّات الثقافية، الجنسية، والدينية إلى دول العالم؛ فالعالم أكبرُ من أرض الأحرار ومواطن الشجعان، حيثُ اشتراطات العيش الإنساني المُشترك لا تتحقق بطاعةٍ سوفييتية يُجبر الآخر عليها، ولا بفيتو ديمقراطي على صورة العالم.