أكثر من مجرّد "طقّ حَنَك"
في إجازة للتعافي والعلاج، تأجّلت طويلاً وبدأتها مُطاردًا بالكراهية والتحريض، لم أحمل حاجاتي تحسّبًا لاختطافةٍ على طريق السفر، محاصرٌ بين خصومٍ للحكاية تتباين معسكراتهم وتتضادّ، قليلهم يعرفني أصلاً، كأنّما أصابهم سُعار جماعيٌّ على هتافٍ عاجزٍ لا يتجاوز الصراخ (إذا لن يقدّم شربَة ماءٍ ولا كسرة خبز)، لكنّهم انطلقوا منه ليطالبوا بإعدامي، أنا وجيلي، وحرقنا واعتقالنا، كأنّما كانوا يطالبون لنا بالحياة من قبل!
كما بدأتها (تلك الإجازة) بكسر ضرسي من فرط "الجزّ" عليه، وأنا أتابع الأخبار، وأبتلع الخيبة، عاجزًا حتى عن الصراخ، أو عن تجاهل محاولات الإلهاء عن الزلزلة التي تقع على بُعد خطوات منّا دون رادعٍ ولا حدّ.
للهتاف والتظاهرة والوجوه دلالاتها الموضوعيّة، المتجاوزة لظاهرها العابر المحَاصَر، ربّما تُفسّر هذه الدلالات الصدى البالغ الذي خلّفته دقيقة ونصف من الهتاف ضمن فعاليّة عاجزة لم يتجاوز عدد المشاركين فيها العشرات، من بلاغات ونباحات لم تكفّ حتى الآن، وكعادتهم الغبيّة الجاهلة، ينفخون البقاء في ما أمكن أن يبتلعه النسيان، لكنّه لم يكن غباءً مطلقًا ما جرى، إذ فيه بعض الوجاهة.
في مساومة سابقة داخل المعتقل، قلت لأحدهم وكان مسؤولاً كبيرًا: أتمنى أن تكونوا تعلّمتم الدرس مما جرى في يناير. فردّ بحسم: نعم تعلّمناه جيّدًا؛ الراجل كان غلبان وساب لكم هامش وصّل ليناير، واحنا مش هنسيب أي احتمال للهامش ده.
هذه حدود استيعابهم الدرس: "يمكن للهامش ابتلاع المتن مع الوقت". لم يكملوا الاستيعاب: "وغياب الهامش سيفجّر المتن، مباغتة"، أو "نسف الهوامش المتوقعة لن يعدم الهامش، بل التوقُّع".
بالعودة للنظر في الدلالات قد نجد الآتي:
- حدثت التظاهرة، ولو مصادفةً، في شهر يناير/كانون الثاني، وهو ما يفقأ دمّلاً نفسيًّا لدى السلطة لم يتطهر بعدُ، ولم يُعالج، وتسعى السلطة بأذرعها المختلفة للتخلّص من هذه الذكرى المؤلمة لهم، ولو بإلغاء هذا الشهر تمامًا، أو ابتداع ألف حدثٍ وذكرى مخلّقة لتلفت الأنظار بعيدًا عمّا حدث ذات يناير قبل 13 سنة.
التظاهرة لفلسطين، منطلق كلّ صياغة جديدة للواقع المصري خطاباً وحراكاً على مدار عقود
- الوجوه المشاركة في غالبها من طليعة الثورة وصنّاعها، وقد بُذل الكثير للتخلّص منهم/ن، أو تشويههم حتى الآن، وغير قليل منهم/ن معتقلين/ات سابقين/ات أخرجتهم السلطة بطموحات تتقلّب بين الاستيعاب والتهذيب والكسر، لكنّهم يحرصون على إحباط تصوّرات السلطة تلك عنهم، وعن أدواتها القمعيّة تجاههم.
- التظاهرة لفلسطين، وهي كما سبق وأوضحنا، منطلق كلّ صياغة جديدة للواقع المصري خطابًا وحراكًا على مدار عقود، وغالب جهد السلطة في هذه المرحلة يتّجه لضمان بقاء هذه الصياغة مستوعَبَة، وتحت أسقف التوجيه/ التوقُّع.
- مكان التظاهرة (على سلالم نقابة الصحافيين)، وهي ذات تاريخ موجع لكلّ سلطة، وكانت خطوةً راسخة على طريق التحرير (2011)، كما أنّ نقيبها الحالي، الأستاذ خالد البلشي، ليس موضع ترحيب من السلطة، ليس فقط لتوجّهاته الوطنيّة الخالصة ونضالاته المستمرّة لانتزاع حقّه كإنسان/مواطن وحقوق زملائه، إنّما كذلك لأنّه فاز غصبًا، وعلى وجهٍ ما، وطرح "الصندوق" كاحتمال للتغيير، ولو داخل نقابة، رغم محاولات إفشال هذا الاحتمال.
- كشف هؤلاء النفر القليل وهتافاتهم عورات السلطة وتوجّهاتها المنحازة فعلاً للعدوّ رغم ادّعاءاتها المتكرّرة، والمشاركة في كلّ جريمة بحقّ أهلنا في فلسطين منذ اليوم الأوّل للعدوان، وأفسدت بصورةٍ ما المشهد الذي تحاول السلطة إخراجه (ضمن حالة الادّعاء) بأنّها تسيّر القوافل وتُدخل الجرحى بلا كلل.
- محاولات الصهاينة توظيف الفعاليّة لغسل أيديهم الغارقة بالدماء والتبرّؤ (ولو إعلاميًّا) من جرائمهم المروّعة في استمرار لوقاحتهم وإمعان في جريمة تزييف الحقائق التي اعتادوها.
- تبنّيه فلسطينيًّا على نطاق واسع، ليس من نشطاء ومواطنين فحسب، إنّما من نوافذ إعلاميّة مقاومة تداولت المقطع بفخر وتطلّع، ونداء للاستمرار على الطريق ذاته، وهو أهمّ الآثار مطلقًا.
هذه كلّها دلالات لحالة السعار الحاصل ليس تجاه التظاهرة فحسب، إنّما في مواجهة أيّ صوتٍ يخالف القافلة الرسميّة ويطالب بالحياة والحريّة لأهلنا في فلسطين.
ربّما تجعله مفهومًا لتسمح بالتعاطي معه على وجهه، وتجعلنا ندرك قيمة كلّ كلمة، وأثر كلّ جهد مهما بدا ضئيلاً، ومهما ظنّناه مجرّد "طقّ حَنَك".