أكتب كي لا أتكلم
في طفولتي البعيدة كان عنوان التهذيب: الخجل وطأطأة الرأس وعدم التحديق بعيون الآخرين. وكان احمرار الوجه دليلاً على رفعة الأخلاق. كل المظاهر حولي كانت تطالبني بالسكوت. وعيت على الدنيا وأنا أراقب وأختزن الصور والمحرّمات. كان مسموحاً لي فقط أن أجيب إذا سُئلت. وقد كنت طالبة مطيعة جداً.
ما يقوله الرجال هو ما سيحصل. حسناً أنا لن أقول شيئاً. سأكتب ما لن يحصل أبداً في هذا العالم. سأكتب عن رياح عاتية، عن شموس لا تغيب، عن فقاعات ملونة تملأ وجه الأرض. سأكتب عن حيوانات لطيفة لا يؤذيها البشر، عن مدن تسكنها الطمأنينة. سأكتب عن المستحيل.
وإذا قرأ الرجال الأقوياء نصوصي سيعرفون أني لم أقترب من مملكتهم العتية. سيشعرون بتفاهة ما أرويه وسيشفقون عليّ وينسون وجودي.
وهكذا بدأت أكتب كي لا أتكلم. أردت أن أعبّر عما بداخلي دون أن أظهر. متمنية أن يعرفوا ما في قلبي دون أن أواجه رأياً آخر.
في الكتابة أدخل إلى مساحتي الخاصة، إلى عزلتي التي لا يشاركني فيها أحد. وكل ما أطلبه أن يختفي وجودي حتى لو ظهرت كلماتي.
وكنت ألهث خلف الترميز، وأبحث عن آفاق بعيدة أبني فيها خيالات وروايات محاولة ألا أمسّ خصوصية أحد. ووقعت فريسة أوهامي. طاردتني بطلات قصصي وهنّ تسألن السؤال نفسه: هل تريدين تحريرنا أم تكرسّين تبعيتنا؟
هل الكتابة هروب أم مواجهة؟ هل الكتابة بمعنى آخر جبن أم شجاعة؟
لقد فرض الواقع نفسه. وبدا أن أكثر النصوص نجاحاً هي النصوص الصادقة التي تشبه ما نراه كل يوم. وعرفت أن النساء يشاركنني شعوري العميق، هذا التوق إلى التعبير وإلى تحطيم قيود العبودية الوهمية، وأن الرجال يتأثرون أكثر عندما تُروى الحكايات الحقيقية بلسان امرأة.
وهذا الشكل من التعبير بدأ يأخذ منحاه الخاص، وأعلن أنه لا يريد أن يتقيد بمقاييس معينة. وأخذت الصفحات البيضاء تتشكل بعبارات كانت مقموعة داخل كياني. وأخذت أتحرّر شيئاً فشيئاً.
في بداية تجربتي لنشر ما كتبته قالت لي أمي: "شو بدّك بهالشغلة؟ خلص. اكتبي شو ما بدك وخبي الوراق، بيقروهم ولادك".
هل الكتابة هروب أم مواجهة؟ هل الكتابة بمعنى آخر جبن أم شجاعة؟
وهكذا سجلت أمي أول رقابة رجولية حاولت الانعتاق منها. كانت تراقب جهودي بعين غير راضية. ولاحقت لفترة طويلة محاولاتي الفاشلة وهي تحاول أن تثنيني عن رغبتي وتروي لي قصصاً عن سهام ترجمان وهي أديبة من دمشق، ومعظمها عن حظها العاثر في الزواج. أو غادة السمان وتعاستها في إنشاء عائلة متكاملة. يبقى مقياس النجاح في مجتمعنا هذه الصورة لامرأة تستطيع أن تجمع أفراد أسرتها الكبيرة حول مائدة عامرة بطبخ من صنع يدها.
يمنح القلم جرأة لا يعرفها من لم يجربه. ويصبح هماً لذيذاً بمرور الوقت. وقد يكون تحريراً من نوع ما. تحريراً لكل الهواجس التي تنهش الروح، لكن النص المنشور يصبح بقعة ضوء تفضح أسراراً لا تتقبلها مرجعياتنا.
حريتنا المنشودة ما زالت تتعثّر، خطواتها متردّدة، صوتها غير مسموع. محاولاتنا لكتابة القصائد فاشلة، لأن القصائد الخالدة تتنقّل عارية ونحن نفصل لها عباءتها قبل صياغتها. محاولاتنا لإحياء مدينة هرمة فاشلة، لأن هذه المدينة توقف قلبها منذ أن سُلبت حرية أبنائها.
نحن النساء "ناقصات العقل" نعلن عن طريقة جديدة في التعبير لا تتضمن كل أساليب الفصاحة اللفظية التي اعتمدها الرجال، ولا تتقيد بموازين المعرفة الأدبية والفلسفية التي يجب أن تظهرها العبارات القوية. النص ليس مثالياً لكنه صادق ومفهوم ويحكي عن أشيائنا الصغيرة، يكفينا أننا نستطيع أن نحرك أيدينا بالكتابة، رغم كل هذه القيود التي تكبّل معصمينا.
وإذا وصل الصوت النسائي بشكله التافه هذا، بمواضيعه الهشّة، بأسلوبه البعيد عن الجزالة، بمنطقه الذي لا يخدم العقل الأبوي كما يجب، إذا اعتبر مادة مقروءة فقد نكون خطونا خطوة صغيرة إلى الأمام.