أسرار "كاف" أبي الطيب المتنبي

17 نوفمبر 2022
+ الخط -

مدح الشاعر العظيم، أبو الطيب المتنبي، رجلاً في مصر اسمه أبو شجاع فاتك الكبير، المعروف بالمجنون، وكان رفيقَ كافور الإخشيدي في خدمة محمد بن طغج الإخشيد، فلما مات الإخشيد وصار كافور في خدمة ابن الإخشيد، انعزل فاتك وأقام بالفيوم، وذلك كما يقول أبو العلاء المُعرّي في كتابه معجم أحمد (وهو شرح ديوان المتنبي): "أنَفَةً من الأسْوَد، أي كافور الإخشيدي، وحياءً من الناس أن يركب معه، وكان الأسودُ يخافه، ويكرمُه، فزعًا، وفي نفسه ما في نفسه"، بيد أن المتنبي التقاه، فكانت قصيدتُه في مدحه واحدةً من روائعه، يقول مطلعها:   

لا خَيْلَ عِندَكَ تُهْديهَا وَلا مالُ … فَليُسْعِدِ النُّطْقُ إنْ لم تُسعِدِ الحالُ

ومن جملة أبيات القصيدة:

لا يُدرِكُ المَجدَ إلّا سَيّدٌ فَطِنٌ … لِمَا يَشُقُّ عَلى السّاداتِ فَعّالُ 

لا وَارِثٌ جَهِلَتْ يُمْنَاهُ ما وَهَبَتْ … وَلا كَسُوبٌ بغَيرِ السّيفِ سَئّالُ 

تَدرِي القَنَاةُ إذا اهْتَزّتْ برَاحَتِهِ … أنّ الشقيَّ بهَا خَيْلٌ وَأبْطَالُ

كَفَاتِكٍ وَدُخُولُ الكَافِ مَنقَصَةٌ … كالشمسِ قُلتُ وَما للشمسِ أمثَالُ

ألقاتِلِ السّيفَ في جِسْمِ القَتيلِ بِهِ ... وَللسّيُوفِ كمَا للنّاسِ آجَالُ

وأقفُ هنا مع قوله:

كَفَاتِكٍ وَدُخُولُ الكَافِ مَنقَصَةٌ … كالشمسِ قُلتُ وَما للشمسِ أمثَالُ

فكيف بدأ المتنبي التشبيه بواسطة حرف الكاف (كفاتكٍ)، ثم أردف: ودخول الكاف مَنقَصَةٌ؟ ثم عاد بقوله: كالشمس قلتُ؟

قال المعرّي في شرح هذا البيت: "يعني لا يبلغ المجدَ إلا سيدٌ كفاتك، ثم استدرك وقال: ودخول الكاف منقصةٌ أي إذا قلتُ: كفاتك جعلتُ لهُ نظيرًا، ولا نظيرَ له، ثم اعتذر فقال: إنما قلتُ: كفاتك مع علمي أنه لا نظيرَ له، كما أشبّهُ الأشياءَ بالشمس، وأعلمً أنه لا مثلَ لها، ولم يوجب ذلك نقصًا فيها كذلك هذا".

وشرّاح ديوان المتنبي، وهم كُثُر، يدندنون حول هذا الشرح للبيت، ولكن كلٌ يصوغُه بألفاظه..

وكنتُ قد سألتُ الشاعر العراقي، مهند ناطق الحديثي، عن قول المتنبي الآنف الذكر، لماذا دخول الكاف مَنْقَصَة؟

فأجاب: منقصة لأنها تحوّل القولَ من الخبرية إلى التشبيه، والمشبّه به أكمل من المشبّه غالبًا. وللتوضيح: إذا قلتُ: أحمدُ شمس؛ فإنه إخبار بأن أحمدَ له كامل صفات الشمس بلا منقصة، أما إذا قلتُ: أحمدُ كالشمس؛ فإنه إخبار بمشاركة جزئية لبعض صفات الشمس.

فقلتُ: لكن المتنبي عاد وقال: كالشمسِ قلتُ...؟

فأجابني: المسألة فيها تقديم وتأخير.

فكأنه قال: أنتَ قلتُ كالشمس، وتشبيهكَ بالكافِ مَنْقَصَة... إلخ.   

وفي القصيدة أبيات تستحق الوقوف عندها لحسن سباكتها وروعة صياغتها، منها قوله:

ألقاتِلِ السّيفَ في جِسْمِ القَتيلِ بِهِ … وَللسّيُوفِ كمَا للنّاسِ آجَالُ

أبُو شُجاعٍ أبو الشّجعانِ قاطِبَةً … هَوْلٌ نَمَتْهُ مِنَ الهَيجاءِ أهوَالُ

تَمَلّكَ الحَمْدَ حتى ما لِمُفْتَخِرٍ … في الحَمْدِ حاءٌ وَلا ميمٌ وَلا دالُ

ولا ينسى المتنبي تضمين قصيدته بأبيات الحكمة، التي لا تفارق شعره؛ حيث يقول الدكتور شوقي ضيف، في كتابه "الفن ومذاهبه في الشعر العربي": "وأول ما يقابلنا حِكَمُه الكثيرة التي شاعت في شعره، وعُرف بها عند القدماء والمحدثين؛ فهم يذكرون أنّ الصاحب بن عبّاد ألّف رسالة لفخر الدولة ابن بُويه، جمع فيها من شعر أبي الطيب زهاء ثلاثمائة وسبعين بيتًا تجري مجرى الأمثال"، لذا نجد المتنبي يختم القصيدة بقوله: 

لَوْلا المَشَقّةُ سَادَ النّاسُ كُلُّهُمُ؛ … ألجُودُ يُفْقِرُ وَالإقدامُ قَتّالُ

وَإنّمَا يَبْلُغُ الإنْسانُ طَاقَتَهُ … مَا كُلّ ماشِيَةٍ بالرّحْلِ شِمْلالُ

إنّا لَفي زَمَنٍ تَرْكُ القَبيحِ بهِ … من أكثرِ النّاسِ إحْسانٌ وَإجْمالُ

ذِكْرُ الفتى عُمْرُهُ الثّاني وَحاجَتُهُ … مَا قَاتَهُ وَفُضُولُ العَيشِ أشغَالُ

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري

مدونات أخرى