"أختاه احذري" لحس الآيس كريم في الشارع
يمكن النظر إلى وضع المرأة في المجتمع على أنّه إحدى أهم المسائل التي يمكن من خلالها تقييم أوضاع المجتمع ومدى وجود العدالة فيه. وقد عانت المرأة من الظلم لقرونٍ طويلةٍ، حيث كان يُنظر إليها عموماً، وغالباً، على أنّها أدنى مكانةً من الرجل، وأقل قدرةً منه، لا جسديّاً فحسب، بل فكريّاً أيضاً. ولم يقتصر انتشار هذه النظرة الدونية للنساء على "العامة" فحسب، بل كان منتشراً لدى "النخبة" والفلاسفة أيضاً. ويمكن ذكر أفلاطون وأرسطو وروسو وكانط وشوبنهاور وهيغل ونيتشه كأمثلةٍ بارزةٍ على ذلك.
تاريخ الظلم المذكور ترافق مع تاريخ التحرّر التدريجي منه، وصولاً إلى رؤيةٍ معاصرةٍ تقول بالمساواة الأخلاقية التامة بين المرأة والرجل، وضرورة تحقيق الإنصاف النظري والعملي في هذا الخصوص. وعلى الرغم من أنّ بلوغ ذلك الإنصاف لما يتحقّق بعد، تحقّقاً كاملاً، في معظم بلاد العالم وثقافاته، على الأقل، فإنّ هناك وعياً لدى كثيرين بوجوب العمل على تحقيق ذلك الإنصاف، وأملاً في تحقّقه أو في الاقتراب التدريجي من تحقّقه الكامل، في المستقبل المنظور.
بغضّ النظر عن الرأي القائل بأنّ وضع المرأة في العالم العربي أسوأ من وضعها في (معظم) العوالم الأخرى، ومع الأخذ في الحسبان اختلاف هذا الوضع ليس بين بلدٍ عربيٍّ وآخر فحسب، بل بين منطقةٍ أو أسرةٍ وأخرى أيضاً، يمكن القول إنّ وضع المرأة في العالم العربي سلبيٌّ عموماً، ولدرجاتٍ متفاوتةٍ، بين بلدٍ وآخر، أو طبقةٍ وأخرى، أو جماعةٍ وأخرى، أو حتى بين أسرةٍ وأخرى.
وضع المرأة في العالم العربي سلبيٌّ عمومًا، ولدرجاتٍ متفاوتةٍ، بين بلدٍ وآخر، أو طبقةٍ وأخرى، أو جماعةٍ وأخرى، أو حتى بين أسرةٍ وأخرى
ويبدو سوء هذا الوضع، ذروته في رؤية بعض المتبنين لما يسمونه "قيم المجتمع المحافظ". ومن منظور هذه القيم تحديداً، ومن منظور يرى المرأة على أنها موضوعٌ جنسيٌّ بالدرجة الأولى، وربما الأخيرة أيضاً، تتكوّن المعايير الاجتماعية في خصوص النظرة إلى المرأة وتفرض على المرأة والرجل، ويتم التعامل مع المرأة، نظريّاً وعمليّاً، معرفيّاً وأخلاقيّاً، سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً. ويظهر سوء هذا المنظور خصوصاً في تفاصيل رؤيته لحضور المرأة في المجال العام، حيث تسود المزايدات التي تستهدف الخلاص من "الفتنة" المتمثلة في المرأة، بوصفها موضوعاً جنسيّاً. فلا الحجاب كافٍ، ولا حتى النقاب كافٍ، فالمرأة قد تفتن بصوتها أو رائحة عطرها أو ابتسامتها، لهذا يجب حظر كلّ ذلك، واعتباره عورةً يجب إخفاؤها. لكن ذلك ليس كافياً لدى بعض ممثلي هذا التيار "المحافظ"، إذ يبقى "حضورها الجسدي" مثيراً للفتنة، و"للقيل والقال". فحتى لو لم تظهر أيّ مسامة من مسامات جسمها، فإنّ الإغراء قد يحصل بسبب لون شراباتها/ جراباتها أو حقيبتها أو كحل عينيها أو لونهما، أو طقطقة صوت حذائها، أو تماوج الرداء الذي ترتديه. ولهذا فمن الأفضل أو الواجب أن تبقى المرأة في بيتها، ولا تخرج منه، إلا للضرورة القصوى. لكن حتى كلّ ذلك ليس كافياً. فالمرأة قد تثير الفتنة بمجرد حضور اسمها. ولهذا يمتنع كثيرون عن ذكر اسم العروس في بطاقات الدعوة إلى العرس والاكتفاء بأنّ العروس هي كريمة فلان!
باختصارٍ، يجري تأويل المرأة وكلّ ما يتعلّق بها، على أساسٍ جنسيٍّ بالدرجة الأولى. فتدخينها للنرجيلة أو أكلها للموزة أو الخيارة، على سبيل المثال، من الأمور المستهجنة، لأنها تذكِّر المحافظين بمسائل جنسيةٍ. والأمر ذاته ينطبق على لحس الآيس كريم. وهذا التأويل الجنسي للعق أو لحس الآيس كريم تحديدًا كان موضوع مقالٍ كتبه "صحفيٌّ سوريٌّ" أخيراً في صحيفةٍ ألمانيةٍ، رأى فيه أنّ ممارسة هذا اللحس في المجال العام أمرٌ شائنٌ أو مثيرٌ للحرج لدى أفراد المجتمعات المحافظة عموماً، ومنها المجتمع السوري. وقد أثار المقال ضجةً واستهجاناً لدى كثيرين. وتركزت الانتقادات الموجهة له على مضمون تأويله من ناحيةٍ، وعلى قيامه بتعميم حكمه على المجتمع السوري بأكمله، دون أن يأخذ في الحسبان أنّ الكثير من السوريات والسوريين لا يتبنون هذه الرؤية، وأنه ليس نادراً أن تتناول السوريات الآيس كريم في المجال العام، دون وجود أيّ حرجٍ، في هذا الخصوص، لديهنّ أو لدى الأفراد المحيطين بهنّ.
الدفاع عن المجتمع لا يعني تبني قيم ذلك المجتمع أو قبولها بغضّ النظر عن مدى معقوليتها أو منطقيتها؛ بل يعني تبني نظرةٍ نقديةٍ حيالها
المدافعون عن المجتمع المحافظ وقيمه ومنظوره عموماً يتبنون، "في أحسن الأحوال"، رؤية نسبويةٍ ترى أنّ لكلّ ثقافةٍ أو مجتمعٍ قيماً مختلفةً عن قيم المجتمعات الأخرى، وأنه ينبغي احترام هذه القيم والمحافظة عليها. أما في "أسوأ الأحوال"، فيُنظَر إلى تلك القيم على أنها القيم الأعلى والأسمى التي ينبغي أن يخضع لها الجميع أو أن يجري العمل على إخضاعهم لها، في حال توافر القدرة على ذلك. المفارقة الطريفة والمثيرة للتفكير، أنّ تبنّي المحافظين للنزعة النسبوية في العلاقة مع الخارج لا يترافق مع نزعةٍ مماثلةٍ في العلاقة مع الداخل. فالقائلون بأنّ المجتمع السوري محافظٌ، وأنّ أفراده يشعرون بالحرج والخجل من لحس (الفتيات) الآيس كريم في الشارع، يجهلون، أو بالأحرى يتجاهلون، أنّ عدداً ليس قليلاً من السوريين/ات لا يشاركونهم ذلك الشعور ولا يتبنون تلك الآراء المحافظة، بل يستغربونها ويستهجنونها.
أنا من متبنّي عنوان كتاب الفيلسوف الفرنسي، ميشيل فوكو، "يجب الدفاع عن المجتمع"، لكن ذلك الدفاع يعني الدفاع عن كلّ أفراد المجتمع، وحرياتهم وحقوقهم، وليس الدفاع عن أغلبيةٍ فعليةٍ أو مزعومةٍ تريد فرض قيمها على المختلفين معها أو عنها. والدفاع عن المجتمع لا يعني تبني قيم ذلك المجتمع أو قبولها بغضّ النظر عن مدى معقوليتها أو منطقيتها؛ بل يعني تبني نظرةٍ نقديةٍ حيالها، تفسح لأفراد ذلك المجتمع تبني القيم التي يرونها مناسبةً، دون إكراهٍ أو قسرٍ خارجيين. فذلك الدفاع لا يعني فقط الإقرار بحق اختلاف كلّ مجتمعٍ عن المجتمعات الأخرى، بل يعني، أيضاً وخصوصاً، التشديد على حق الاختلاف داخل المجتمع نفسه، وتوجيه النقد أو الانتقاد تجاه القيم والمعايير التي تختزل إنسانية المرأة في أنوثتها، وفي كونها موضوعاً لا ذاتاً في العملية الجنسية. وبدلاً من الاستمرار في رؤية "لحس الآيس كريم" فعلاً فاحشاً ومرذولاً، ينبغي القيام بمراجعةٍ نقديةٍ لتلك الرؤية ومحاولة التخلّص من المنظور الجنسي الضيّق الذي تستند إليه.
ربما كانت الصرخة الشهيرة لمحمد حسين يعقوب "أختاه احذري" تعبيراً نموذجيّاً عن هذا المنظور؛ حيث رأى فيها أنّ الحجاب والنقاب غير كافيين لإبطال كونها مثار فتنة، فطلب منها المبالغة في الحذر لأنّ كلّ شيء فيها أو متعلّقاً بها (صوتها، نظرة عينيها وكحلهما، مشيتها، لون شراباتها أو حقيبتها، إلخ) مثيرٌ للفتنة والشهوات والغرائز. وعلى هذا الأساس، لا تبدو المرأة مثيرةً للفتنة احتمالاً، بل تبدو هي الفتنة أو العورة ذاتها، وإمكاناً دائماً للمسّ بالشرف وجلب العار. ويبدو أن لا حلّ معها إلا بالوأد، فور ولادتها، أو انتظار موتها للخلاص منها. وبهذا المعنى، قيل "البنات همهم للممات". وعلى هذا الأساس، يمكن للمنظور الجنسي المحافظ أن يكون هاويةً لا قرار لها. فليس هناك حدٌّ يمكن أن يقف عنده، ولا حلٌّ يمكن التوصل معه إليه، في التعامل مع "مشكلة وجود المرأة". فمهما التزمت المرأة الحذر واتخذت الحيطة، تبقى موضوع شبهةٍ ومثار فتنةٍ، بالعين أو بغيرها من الحواس الخمسة، أو بالفكر والمخيلة.
من وجهة نظر البعض، مهما التزمت المرأة الحذر واتخذت الحيطة، تبقى موضوع شبهةٍ ومثار فتنةٍ، بالعين أو بغيرها من الحواس الخمسة، أو بالفكر والمخيلة
من الشائع أن يدافع بعض أنصار المنظور الجنسي المذكور عن حق أفراد هذا المنظور في التعبير عن آرائهم وقيمهم، لكن الطريف هو رفضهم لحق الآخرين في نقد تلك الآراء والقيم. وعلى الرغم من أنّ حقهم في التعبير عن آرائهم وقيمهم يتأسّس على منظومةٍ أخلاقيةٍ وسياسيةٍ لا يتبناها (معظم) أفراد ذلك المنظور، فإنني أرى معهم أنّ من حقهم التعبير عن أفكارهم وقيمهم في المجال العام، وأنّ من حق المرأة التي تتبنى تلك الأفكار أن تعبّر عنها في سلوكها وفي الملابس التي ترتديها. في المقابل، من حق المختلفين مع هذا المنظور نقده وانتقاده، والعمل على منع فرضه على الآخرين، عموماً، وعلى النساء خصوصاً. فمن منظور كثيرين، في المجتمع السوري، المزعوم أنه برمته محافظٌ، لا يكمن الفحش، في هذا السياق، في اللحس العلني للآيس كريم، بل في اعتبار ذلك اللحس فحشاً.
أشير، أخيراً، إلى أنّ تبني المنظور الجنسي المذكور قد يتخذ شكل الهوس الذي يدفع بأصحابه إلى النظر إلى الكثير من المسائل (السياسية) من هذا المنظور أو المنظار، خصوصاً أو تحديداً. فليس نادراً أن تكون مسألة الجنس هي الأساس الأول الذي يرفض المحافظون المذكورون الديمقراطية والعلمانية انطلاقاً منه، بدعوى أنهما تبيحان الفواحش الجنسية وتحضّان عليها، حيث يجري تصوير البشر على أنهم حيواناتٌ جنسيةٌ مكبوتةٌ، وأنّ منحهم الحرية سيجعلهم يسارعون إلى ممارسة الجنس مع أيّ شخصٍ متاحٍ لهم. فعلى سبيل المثال، لا يتورّع المستشار المحافظ جدّاً، سالم البهنساوي، في كتابه "الإسلام لا العلمانية: حوار مع د. فؤاد زكريا"، عن القول: "لقد صاغت العلمانية الأوروبية عقل الإنسان صياغة أفقدته عقلانيته، فأصبح لا يرى بأساً في الزنا حتى لو كان مع جارته أو زوجة صديقه أو حتى أخته أو أمه..". ومن الواضح أنّ الرؤية الجنسية المحافظة تخطئ أو تكذب في تنميطها للمجتمعين السوري/ المحافظ والأوروبي/ غير المحافظ، على حدٍّ سواء. وعلى الرغم من أنّ "حبل الكذب قصير"، فإنّ "لسانه يبدو طويلاً"، خصوصاً إذا أخذنا في الحسبان التوظيفات السلبية الكثيرة لمثل هذا الكذب.