أثمن ما تدخل به العام الجديد
ربما مع الوقت ستدرك أنّ الإنجاز الفعليّ لا علاقة له بالأرقام، ولا يقاس بالإحصائيات، وإنما ستحسبه (من بعد نضجك) بالمعنى أكثر من العدد، وبالكيف أكثر من الكم، وستعرف في لحظة ما أنّ سعيك المحموم من قبل لتكوين ثروة من الأرقام القياسية ليس ذا جدوى ما لم تكن لاعبًا لكرة القدم. وإنما الأساس أن تسعى في طريق صحيحة، وأن تخوض معارك ذات قيمة، وأن تحقّق مكاسب لها جوهر حقيقي أكثر من أن يكون لها مظهر برّاق.
تذكرني سباقات بداية العام ونهايته بالذين يرسمون لأنفسهم ملعبًا، وينظمون مسابقةً، ويفوزون وحدهم بالبطولة، لأنهم لا ينافسون إلا شبحًا يطاردهم، اسمه الشعور بالإنجاز، فسيشعر المنتصر الوحيد، في الحرب التي بلا خصوم، بأنه حقّق شيئًا، وسيراكم الميداليات بخزانته، حتى يأتي يومٌ يحتاج فيه إلى أن يتنافس فيه بالفعل، سيجد نفسه مهزومًا، لأنّ الخصم هنا شيء آخر غير نفسه، التي كان يربح الموقعة معها بالتزكية كلّ مرّة.
ويذكرني هذا كذلك بمن يحارب طواحين الهواء، يخوض معركة وهمية مع اللاشيء، ويبني مجدًا على هواء، وقصورًا من الفقاعات بلا أساس، يا سيّدي، الحياة ممتلئة بالمعارك الحقيقية، فلماذا أراك تستأسد حين تخلو الساحة وتُحجم إذا ما أقدم الفرسان؟ هنا مربط الفرس، وهنا تكمن المشكلة؛ اختيار معاركك، وبالتالي الحجم الحقيقي لمغانمك ومغارمك، والوزن الفعليّ لمكاسبك وهزائمك.
الحرب المستعرة في الدنيا كلّ يوم، في مناخ العمل المرهق، وفي المحاضرات الصعبة، وفي الشارع المزدحم، وفي الاختبارات الأخلاقية الشديدة، وفي الخلوات التي لا يراك أحد بها، وفي العلاقات التي بعضها متعب، وفي الحياة التي تصرّ على أن تخيّرك كلّ ساعة بين أكثر من سيناريو، وتضع لك البهارات مع كلّ منها لتزيدك تشويقًا ومخاطرة، رغم أنك تكره الحيرة... كلّ ذلك الرابح الأكبر فيه هو من يخرج بقلب سليم، لم تفسده النوائب، ولم تُقسِّه الظروف، ولم يطغَ الكره فيه على الحب، وسوء الظن على حسنه، وبعقل متّزن، لا يغادره الإنصاف، ولا يخلّه الهوى، ولا يُفقده ما يرى توازنَه، وبعينين قادرتين على رؤية ما خلف السطور، ووراء الصدور، فتتجلّى عندهما الحقائق، وتتحلّى لديهما السرائر، وأن تستطيعا رؤية نعم الله في كونه، وفي الآفاق، وفي النفس، وأقول "تستطيعان" لا "تستطيع" لأنهما عينان لا عين واحدة، وهذه بحدّ ذاتها نعمة داخل النعمة، فتريان أكثر مما ترى واحدة منهما فقط، وتشعران بالخجل أن يرى الكفيف نعمًا لا تدركانها. وهذه ليست فلسفة، وإنما محاولة مختلفة للإبصار.
أثمن ما تفعله الآن، أن تراجع نفسك في القديم، فتنظر فيما أحسنت، وفيما أخفقت، فيما ركزت، وفيما حدت
وكذلك من أجمل ما تغادر به عامًا وتستقبل به عامًا هو صدر مطمئن، يصفو أكثر مما يتكدّر، ويُنقّى أكثر مما يُعكّر، ويسامح أكثر مما يخاصم، ويهدأ أكثر مما يثور، وعقلٌ واعٍ يعرف غايته في الحياة، ومنتهاها، ويدرك حكمة الله منها، ويفهم مراد خالقه، فلا يحيد إلى هدف لم يُرسم له، ولو كان قادرًا على تحقيقه، ولا يحارب في نزالٍ ليس أحد أطرافه، ولو كان قادرًا على أن يفوز به.
وعليهِ فإن أثمن ما تفعله الآن (أو في أي وقت تحب أن تعتبره خطًّا زمنيًّا فاصلًا بين نهاية منصرمة وبداية مقبلة) أن تراجع نفسك في القديم، فتنظر فيما أحسنت، وفيما أخفقت، فيما ركزت، وفيما حدت، في أي شيء وجدت الله حقًّا، وفي أي درب كانت الشياطين تتقافز حولك، في أيّ حالٍ قرأت ففهمت، وفي أي حالٍ اهتممت بعدد الصفحات أكثر من الحبر المسكوب فيها، وماذا جنيت من علمك في عملك، ومتى خرجت من هذا وذاك بخفَّي حُنين.
وعساك تسأل الآن عن الهدف الذي يجب عليك وضعه، من باب المشاركة لا النصيحة، فرأيي أن تضع خطة واقعية، قد لا تخلو من الحلم، لكنها ليست بالكامل حالمة، لما تريد تحقيقه خلال عام، أو شهر، أو يوم، من تحصيل علم، ومن تجارب عمل، ومن توسّع في المدارك، ومن تراكم للخبرات، ومن نضج في العلاقات، وأن يكون ذلك بحدّ ذاته جزءًا من خطة أكبر، لسنوات أكثر، فيكون الهدف ملموسًا، قادرًا على أن تدرس نتائجه، وحينها سيأتي عليك آخر العام القادم، إن أحياك الله، وأنت تحتفظ ببطولاتك الحقيقية في عقلك وصدرك وعمرك وأثرك، لا في خزانة الملابس، أو على جدران مواقع التواصل.