أبو الفلاح يكتب عن دولاب الدولة المصرية (5)

09 نوفمبر 2021
+ الخط -

يواصل نوبار باشا في مذكراته تأمل طريقة الخديوي سعيد باشا في إدارة دولاب الدولة المصرية معتبراً أن عدم اكتراثه بالتفاصيل الإدارية واستهتاره بها بعكس الطريقة التي سار عليها أسلافه، كان له تأثيرات إيجابية في نظر عموم المصريين الذين تخففوا قليلا من وطأة قبضة الدولة، لكنه يأخذ على سعيد عيباً شخصياً خطيراً، وهو أنه لم يقتنع بالحياة المتقشفة التي عاشها أسلافه، حيث فضلوا هيبة السلطة على رخائها، أما هو فقد اختار رخاء السلطة ولم يلق بالاً لهيبتها، وهو ما انعكس على الكثير من تفاصيل الحياة في عهده، حيث كان يتم استيراد كل احتياجات جيشه من باريس، وبدلاً من اختيار أقمشة عملية لملابس الجنود والضباط، كان يتم شراء أقمشة غالية الثمن ورفيعة الذوق.

بالطبع استلزم هذا النوع من القرارات الغريبة وجود علاقات شخصية بين كبار مساعديه والتجار الذين تهافتوا على تملقه هو ورجاله، ولذلك كما يقول نوبار: "كان من الطبيعي ألا ينال التجار الشرفاء الأفضلية، وإنما ينالها هؤلاء الذين يستطيعون تحمل نزواته والتصفيق لكلماته الجميلة، ومن لديهم القدرة على تسليته بروحهم المرحة، وأخيرا هؤلاء الذين لا ينفرون من حياة المعسكرات التي تبعت سعيدا أينما ذهب، ولذلك بدأت الأموال تنفد من الخزينة"، فأصبح سعيد و"ذوقه الرفيع" عبئاً على مصر وشعبها، وهو ما يعلق عليه نوبار قائلاً: "مسكين سعيد لولا المكابرة وافتقاده للحكمة، ولولا استدراجه إلى تغيير كل شيء، والسير عكس الطريق الذي كان يسير فيه عباس ولو كان بكل ما أوتي من روح ونبل وتسامح قد احترم نفسه قليلا لكانت فترة حكمة ستكون في كل الأحوال خصبة لمصر تماما مثل خصوبة طمي النيل المبارك".

كانت سيطرة الأجانب على دولاب الدولة واحدة من أبرز مظاهر الحكم خلال عهد الخديوي سعيد، وهو ما يورد نوبار له عدداً من الأمثلة، من أقواها دلالة واقعة دفع تعويض قدره 25 ألف فرنك لمواطن نمساوي أصيب بكدمة في عينه أثناء مشاجرة مع عربجي في القاهرة على رغم أن المستشفى التي نقل إليها أكدت أنه لم يكن هناك ثمة إصابات خطيرة وأن العين تورمت فقط، لكن النمساوي بمساعدة قنصله طالب بخمسة وعشرين ألف فرنك بحجة أن الحكومة مسئولة عن البوليس التي كان عليها أن تتدخل من أجل ان تمنع تورم عينه، وتم دفع المبلغ من خزينة الدولة، وهو ما يعلق عليه نوبار قائلاً: "كان مثل هذا المنطق مقبولا ولا يندهش له أحد، فقد كانوا يحسبونه طبيعيا تماما ومنطقيا، وإلى هذا الحد كان الجهل عظيما وارتباك الأفكار كبيرا. وانتشر بين الناس سخرية أنه إذا كان أحد يريد أن يحقق ثروة فما عليه سوى أن يدعي أن فرس الوالي نظر إليه بطريقة غير لائقة ويقوم برفع دعوى يطالب فيها بتعويض"، ولم تكن تلك المهازل تحدث بعيداً عن علم الخديوي سعيد وموافقته، حيث يروي نوبار إنه سمع الخديوي سعيد يقول لأحد القناصل الأجانب ساخراً: "غطوا أنفسكم عزيزي القنصل، هناك تيار هواء ومن الممكن أن تصابوا بالبرد فأضطر إلى دفع تعويضات لكم".

قام نوبار بتكوين انطباعه الأول عن الخديوي إسماعيل حين التقى به لتقديم فروض الولاء والطاعة، فحدّثه إسماعيل عن فكرة كانت تراوده منذ عهد سعيد، هي تقسيم حديقة الأزبكية وبيعها

في موضع آخر من مذكراته يتحدث نوبار باشا عن طريقة تعامل الخديوي سعيد مع السودان الذي كان يرغب في التخلي عنه، لأنه كلما أرسل إلى السودان والياً تمرد عليه السودانيون، لكنه تراجع عن رغبته بعد أن اقترح عليه صديقه دي ليسيبس أن يقوم بتعيين أراكيل بك شقيق نوبار والياً على السودان بعد أن امتدح قدراته الإدارية، ولم يصدق سعيد أن أراكيل يمكن أن يوافق على شغل هذا المنصب، لأن كل من كان يفكر فيهم كانوا يعتبرون السودان مقبرة للولاة، فطلب أن يسمع أراكيل بنفسه وهو يعلن استعداده لقبول المنصب، فذهب إليه أراكيل وقال له إنه يوافق على التعيين ويجد فيه تحدياً يمكن أن يكون مناسباً له لأنه لا يجد شيئاً مهماً يفعله في مصر، ولم يكن أراكيل يعلم أن السودان ستكون مقبرة له، ليس بسبب تمرد الولاة، ولكن بسبب إصابته بمرض الدوسنتاريا الذي أصيب به بعد 20 شهراً من توليه وتوفي بسبب مضاعفاته.

كانت مهمة أراكيل تبدو مستحيلة في البداية لأنه مسيحي الديانة يفترض به أن يدير شئون بلد مسلم، لكنه طبقاً لتعبير نوبار "تمكن من السيطرة على السودان بفصيلة عسكرية كانت تكفي بالكاد للحفاظ على الأمن"، ولم ينجح في تحقيق ذلك إلا بالعدل في إدارته للبلاد، وهو ما جعل السودانيين يصفونه بالأمير العادل الذي استطاع أن يقنع السودانيين برغبته في إصلاح أحوالهم، ليكشفوا أن تمردهم على الولاة السابقين كان سببه غياب العدل وسيادة الظلم، وأنهم يمكن أن يقبلوا بالحاكم العادل حتى لو اختلف معهم في الديانة، بعكس ما كان يتم ترويجه عن تعصبهم الديني، وهو ما يعلق عليه نوبار قائلاً: "إن هذه الشعوب لا تحتاج إلا للعدل لكي يسودها الهدوء والسعادة وحمايتها من تجاوزات الموظفين. هذه كانت رغبتهم. لقد اختفى الإرهاب أما المسيحي فإنه أعطاهم ما هم في حاجة إليه الحماية والأمان".

من أغرب ما يرويه نوبار باشا عن حكم الخديوي سعيد هو حديثه عن وقوع سعيد أسيراً لخرافات موائد تحضير الأرواح لكي تساعده على إطالة عمر حكمه للبلاد، لكن ذلك لم ينفعه كثيراً ولم يمنع إصابته بالمرض المميت، ليفارق الحياة في يناير 1863، وفي مشهد درامي شديد الدلالة يروي نوبار أن مساعدي سعيد وكبار موظفيه قاموا فور موته بإرسال تلغراف من الإسكندرية لإسماعيل باشا يسألونه عن التعليمات التي يجب أن يتم اتباعها فأجاب بضرورة حضورهم إلى القاهرة، فهرعوا جميعا وتركوا جثمان سعيد الذي لم يشترك في جنازته أحد من مساعديه وموظفيه، ليصاحب النسيان واللا مبالاة الكاملة سعيد إلى القبر، وينساه الذين طالما انتفعوا بحكمه، ليبدأ بحثهم عن فرصة لنيل رضا الخديوي إسماعيل حاكم مصر الجديد.

لم يكن من المفروض أن يتولى الخديوي إسماعيل خلافة سعيد باشا، فقد كان من المفروض أن يخلفه ولي عهده أحمد الذي غرق بطريقة عبثية يروي نوبار تفاصيلها في مذكراته، ثم يعلق قائلاً إنه من يدري ربما لو كان أحمد تولى الحكم، كان يمكن ألا تخرب مصر كما خربت في عهد إسماعيل الذي كان سعيد "يعامله كما لو كان بقالا" ويقول لكل من حوله: "سوف تفتقدونني حين يصبح إسماعيل واليا عليكم"، لأن سعيد لم يكن يبالي بالجوانب المالية والاقتصادية، وكان يرى أنها أعمال لا تليق بأمراء أسرة محمد علي باشا بل تصلح فقط للموظفين.

قام نوبار بتكوين انطباعه الأول عن الخديوي إسماعيل حين التقى به لتقديم فروض الولاء والطاعة، فحدّثه إسماعيل عن فكرة كانت تراوده منذ عهد سعيد، هي تقسيم حديقة الأزبكية وبيعها، وقد كانت الأزبكية وقتها أكبر حدائق القاهرة التي تم إنشاؤها في عهد محمد علي بعد تجفيف بحيرة قديمة لحماية القاهرة من مياه الفيضان، وكان القاهريون يعتبرونها أهم متنفس لهم، فيجتمعون فيها مساء كل يوم للتنزه وشرب القهوة أو البوظة على أنغام الموسيقى الشرقية في مشهد يصفه نوبار بأنه "مشهد حالم يأخذ بالألباب بعيدا عن الواقع"، لذلك كما يقول نوبار: "بدت لي فكرة قطع الأشجار التي زرعها محمد علي وراقب نموها بكل حب لتحل محلها العمائر والمنازل القبيحة من أجل جمع المال أمرا غريبا لم يكن من الممكن توقعه، لم أرد على اسماعيل بشيء لكني لم أستطع أن أمنع نفسي من التساؤل: هل كان من حقه أن يقسم ويعرض للبيع حديقة عامة ومكانا للترويح عن شعب بأكمله؟ حقيقي لم يكن في نفسي شيء أقوله لكن أصحاب المنازل التي كانت تحيط بالحديقة ألم يكن من حقهم في هذه الحالة أن يشكوا ويطالبوا بالتعويضات؟".

...

نكمل غدا بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.