أبو السماعة وأبو الجزمة

13 ديسمبر 2016
+ الخط -


كان الصديق الراحل برهان بخاري (أبو عرفان)، من أكثر الناس حباً بالعمل والتأليف، ويكفيه أن قدم للمكتبة العربية "موسوعة الحديث النبوي"، وهي الأكثر دقة وتحقيقاً وموثوقية بين مثيلاتها من الموسوعات. وكان، في الوقت ذاته، حسن المعشر، يحب الاستماع إلى النكتة الذكية البارعة.


التقيت به ذات يوم، في مطعم الريس بوسط دمشق، وخلال تلك الجلسة الرائقة حدثني عن لَحَّام أخرس، كان يعمل في حارتهم بدمشق أيام الصبا... وكان معظم أهالي الحارة يشترون اللحم من دكانه بالدين (على الدفتر).


وفي يوم من الأيام دفعه الفضول لكي يعرف كيف يسجل اللحامُ الأخرس أسماء الزبائن... فوجد أنه يتعامل بالرسم بدلاً من الكلمات؛ فكان يرمز لعائلة (الزنابيلي) برسم لزنبيل فارغ!!... ويكني عائلة النجار برسم لرجل يحمل المنشار... ولا أسهل عليه من رسم إحدى عظام الخروف للكناية عن آل (العظمة).. وأما عائلة (البخاري) فكان يرمز لها بقدر صغير يتصاعد منه البخار!!.


وأما صديقي (وأستاذي) الراحل محمد نور قطيع "أبي النور" فقد أصبح يعاني، في آخر حياته، من نقص في السمع، ويضع سماعة طبية كبيرة في أذنه اليسرى. وقد حدثني أنه اكتشف حالة نقص السمع التي أصابته بطريقة عجيبة، إذ كان يحمل علبة عيدان الثقاب، ويقربها من أذنه، ويحركها ليعرف من خشخشتها إن كان فيها عيدان، فلا يسمع شيئاً، فيرميها، ويأتي بغيرها، وهكذا رمى ثلاث أو أربع علب، حتى انتبه ولده عبد الحي لهذه الحركة، فقال له: أنت ترميها وهي ملأى. وخشخشها عبد الحي، وقال له: اسمع. ولم يكن ليسمع. وذهب إلى الطبيب، ونصحه بوضع سماعة طبية في أذنه، ففعل.


وذات مرة طلب من بائع الخبز أن يسجل له دَوْراً لشراء ربطتين من الخبز.. فامتثل البائع لطلبه دون أن يسأله عن اسمه، وعند استلامه ربطتي الخبز، اكتشف أن البائع رمز له بعبارة (الأطرش أبو السماعة).. فضحك "أبو النور" وقال له: وهل يوجد طرشان من دون سماعات؟


فرد عليه البائع بجدية تامة: طبعاً.. وما أكثرهم!


وحدثني صديقي أبو مصطفى من بلدة معرتمصرين بشيء غريب. قال لي: لقد توفي والدي- رحمة الله عليه-  في سنة (1955)، وكان يعمل بقالاً. وبعد أن انتهينا من مراسم الدفن، وأيام العزاء الثلاثة، جلسنا أنا وإخوتي لنقتسم تركته... وكانت عبارة عن أشياء بسيطة: دار السكن والبقالية... إضافة إلى مبلغ مئتي ليرة عبارة عن ديون على الناس مدونة في الدفتر... ولعلمك فإننا سررنا بوجود هذا المبلغ في رصيدنا، ففي تلك الأيام كانت 200 ليرة تُعَدُّ مبلغاً كبيراً يكفي لشراء دار سكن أو دكان أو قطعة أرض أو منشأة تجارية.


قال: ولكننا لم نستطع أن نحصل منه قرشاً واحداً!

قلت: لماذا؟

قال: لأن والدي، رحمه الله، كان يكتب صفات المدينين بدلاً من أسمائهم. ففي الدفتر عشر ليرات مستحقة على (أبو الجزمة) وخمس ليرات على (أبو العكال) وليرتان على (أبو الشوارب) وثلاث ليرات على (أبو الخال) وتسع ليرات على (المرأة أم غمازات الحُسْن)، وهكذا...!! 

 

 

دلالات
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...