أبراج كتب

02 أكتوبر 2017
+ الخط -
مع إعادة فتحها، عرفت مكتبة "معهد العالم العربي" في باريس تطويرات ليس فقط على مستوى رصيد كتبها، وإنما أيضاً معمارياً، وأبرز ما في ذلك إنشاء "برج الكتب" الذي يخترق المكتبة عمودياً من الطابق الأول إلى السابع.
دخول البرج - أو صعوده - يعني مراوحة بين مشاهدة الكتب العربية المرصّفة ومشاهد باريسية متنوّعة بفضل المسار الدائري، حتى ليبدو تاريخ الأدب العربي صاعداً كظفيرة فوق نهر السين، وقد ترى من أعلى أوّل صفّ باعة الكتب القديمة في سان ميشال على ضفة السين، أو جريان هذا النهر بين معالم العاصمة الفرنسية.

وطبعاً، يقترح عليك من إحدى الزوايا أن ترى برجاً آخر، هو أشهر أبراج باريس؛ برج إيفل، بمعماره الفولاذي، والذي قد يبدو من هناك (أي من بعيد) أبهى، حيث إذا اقتربت منه شعرت بتسلّط المتطلّبات السياحية والأمنية عليه.
لكن "برج الكتب" يستحضر أبراجاً أخرى ويستدعيها، أولها كونه برجاً من بين سلسلة أنجزها مصمّمه المعماري الفرنسي جان نوفال، كثيراً ما ربط متابعوه فكرته البصرية بصومعة سامراء.
ومن العراق، يمكن أن يحيلك أيضاً إلى برج بابل وما نُسج حوله من حكايات وأساطير، منذ أقدم العصور إلى أيامنا هذه، ومنها استحضار جاك دريدا له، بل أطلق عليه في محاضرة اسم "أبراج بابل" مختزلاً في هكذا عنوان ما حدث في بابل حين طمع بعض أهل الأرض ببلوغ السماء، قبل أن تتفرّق ألسنتهم (وتتبلبل)، فينتهي حلمهم، غير أنهم سرعان ما سوف يبتكرون وسيلة يتواصلون من خلالها، الترجمة، وهنا مربط استدعاء دريدا لهذه الحكاية.
الترجمة وغيرها من وسائل التواصل بين الثقافات ذات الألسن المختلفة، والأمزجة والمعتقدات، هي اليوم شبكة عملاقة، صارت هي الأخرى شكلاً جديداً من أشكال التشييد، وإن لم ترتق عمودياً إلى السماء، أي أنها سمحت في النهاية ببناء أبراج أخرى، أبراج بأشكال متعدّدة دائرية وأفقية وغير مرئية وخيالية.
ليس "برج الكتب" سوى شيء من هذه التقاطعات والتواصلات ما بين الثقافية، فحتى لو كانت جميع حروف هذه الكتب عربية فهي مخترقة بتيارات فكرية ومناهج غربية المنشأ يدرس بها المشتغلون على الأدب أعرق النصوص العربية وأحدثها.
أما المدينة الواقعة في قلب أوروبا، فلعلّها وهي تتطاول في البنيان بأبراجها مثل جاراتها تعرف في سرّها أنها تنساق إلى إرضاءات في نفسها تتلاطم فيها حكايات وأساطير أتت منذ قرون.. من الشرق.
دلالات