آيس كريم في المقبرة
أكلت ذات مرة آيس كريم داخل مسرح. كانت القاعة فسيحة والكراسي حمراء والعرض مبهراً. كل هذا أضفى على الآيس كريم لذة فنية كبيرة. خصوصاً الإضاءة الزرقاء الشاحبة التي تتغير إلى البرتقالي على وقع موسيقى كمان حالمة. كان طعما خيالياً لا ينسى. جربت نفس الآيس كريم مراراً في الشارع وفي البيت وحتى من أعلى الأوداية قبالة المحيط، لكن من دون جدوى. إنه للأسف مجرد آيس كريم لا أقل ولا أكثر.
ذات جمعة قائظة هممت بشراء آيس كريم من عند القلاي المقابل لميني بارك نفسه. ربت أحدهم على كتفي فاستدرت، إنه خالي محجوب. وضع القلاي الآيس كريم فوق الكونتوار. قال محجوب، وهو يحدق في الآيس كريم الشبيه بقبعة السلطان: "أطلب واحداً آخر واتبعني". طلبت واحداً آخر وتبعته إلى سيارته الستافيت المخرخشة. قال: "سنذهب إلى روضة الصديق لزيارة جدتك". ذهبت شهيتي فوضعت الآيس كريمين جانباً. دخلنا المقبرة والآيس كريمان في يدي منكسان. زرنا قبر جدتي ورتّل محجوب أمامه بعض السور القصيرة مغمضاً عينيه في خشوع. قام وقال: "تعال نقرأ قليلاً على قبور أخرى". لمح الآيس كريمين في يدي فأردف دون اهتمام كبير: "افتح واحداً وهات واحداً قبل أن يذوبا". ناولته واحداً وفتحت الآخر.
حسنا ما هذا الطعم الغريب؟ قلت في نفسي. واصلت تأمل طعم الآيس كريم ونحن نتجول بين القبور ونشم عطر نباتات الموتى الرهيب، وأقرأ الشواهد مكتوبة بتلك الخطوط الفقهية الغريبة التي تشبه خطوط الطلاسم. هنا يرقد الحاج فلان. هنا ترقد الحاجة فلانة. هذا عبد الله فلان وقد وفاته المنية سنة كذا هجرية تغمده الله برحمته الواسعة إلخ..
لقد تغير طعم الآيس كريم فعلاً إلى طعم سحري. ركزت مغمضاً عيني فإذا بالقبور تتحول إلى طعم يتبرزخ بين الشكلاطة والبندق، ثم ركزت أكثر فإذا بطعم الشكلاطة والبندق يتحول إلى طعم الموت.
لقد تحول طعم الآيس كريم هذه المرة إلى طعم ميتافيزيقي خالص. يذوب بسرعة في الفم ويختفي إلا أن الطعم يظل عالقاً إلى الأبد في حلق الروح
هذا هو طعم الموت إذن؟ قلت في نفسي وأنا أحدق في خالي يمضغ قضمة كبيرة من الآيس كريم ويمرر يده اليمنى باحترام شديد على صف من القبور قبراً بعد قبر كما يمررها على النباتات أيضاً ويشمها فتعبق بتلك الرائحة. لقد تحول طعم الآيس كريم هذه المرة إلى طعم ميتافيزيقي خالص. يذوب بسرعة في الفم ويختفي، إلا أن الطعم يظل عالقاً إلى الأبد في حلق الروح.
حاولت إنهاءه بسرعة وقد قرفص خالي قبالة قبر وأخذ يقرأ دون صوت هذه المرة ودون أن أعرف قبر من، محركاً شفتيه ومغمضاً عينيه فقط، ونهاية الآيس كريم الصلبة تقطر من يده بشكلاطة داكنة فوق تراب المقبرة كدم جثة قديمة.
مضغت آخر قضمة بسرعة وقرفصت مثل خالي محاولاً القضاء بسرعة على طعم ذلك الآيس كريم اللعين داخل روحي. أغمضت عيني كما لو أني أقرأ في خشوع أنا أيضاً، بينما كنت في حقيقة الأمر أحاول فقط قطع دابر ذلك الطعم ببلع لعابي مراراً وتكراراً. سمعت طنين حشرة ضخمة وملتبسة، وصوت قرآن مرتل آتياً من بعيد بصوت فقيه أعمى، وشممت رائحة ريحان قوية، فعوض أن أمحو ذلك الطعم محاني، وعوض أن أقضي عليه قضى علي، وعوض أن أميته أماتني، فشعرت بأني ميت وبأن خالي محجوب جاء لزيارتي وقراءة بعض السور على قبري.
استقمت مرتعباً وقلت مقاطعاً خشوع خالي: "سأسبقك إلى الستافيت"، وذهبت دون أن أنتظر رده. بصقت على تراب المقبرة محاولاً التخلص بيأس من ذلك الطعم، لكن دون جدوى.
مرت سنوات على ذلك، وكلما رأيت آيس كريماً أو ذقته أرى صفاً طويلا من القبور ونباتات الموتى والشواهد تمر أمامي مقهقهة وأسمع ترتيلاً مخيفاً وطنين حشرة الجحيم.