ويتساءل التونسيون اليوم، ومعهم كل المتابعين في العالم لصيرورة الربيع العربي ومآلاته، عما تحقق في هذه السنوات، وإن كانت التجربة التونسية لا تزال صامدة في محيط مضطرب تعصف به النزاعات المسلحة والخلافات السياسية والتناحر على الحكم والثروات.
وسبب التساؤل مردّه إلى ما تشهده تونس منذ الثورة وحتى اليوم، بعد أن ثبت أن التدرّب على الحياة السياسية الجديدة باهظ التكلفة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. النظام السياسي الجديد، شبه البرلماني، عمّق من درجة الخلافات والتنافس بين الأحزاب ومؤسسات الدولة، وقاد سريعاً إلى تضارب خطير بين رأسي السلطة التنفيذية، رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، ما أدى إلى بروز دعوات إلى إعادة النظر في تكوين البرلمان والنظام الانتخابي وتعديل النظام السياسي. والأخطر أن هذا الوضع أسفر عن تعطّل العمل الاقتصادي والاجتماعي، محرّك الثورة الأساسي، ما يعزز المخاوف من السقوط في اضطرابات مقبلة، ربما تكون منهية لصبر التونسيين على منظومة الحكم وفشل أقطابها في التفاهم حول مشروع اقتصادي وطني موحد يقود إلى تحقيق توقعات ومطالب المواطنين.
ولم تكن الاحتجاجات التي تشهدها تونس، منذ سنوات، سواء في العاصمة أو في مناطق أخرى على غرار سيدي بوزيد، بنقردان، القصرين، الحوض المنجمي، فضلاً عن الإضراب الذي نفّذه الموظفون الحكوميون أخيراً، وحتى ظهور حركات احتجاجية مثل "مانيش مسامح" (لن أسامح) أو "فاش نستناو" (ماذا ننتظر) و"وينو البترول"، وآخرها "السترات الحمراء" (التي لا تزال الكثير من التفاصيل حول من يقف وراءها غامضة، لا سيما أنها لم تنفذ أي تحرك بعد على الأرض)، سوى دليل إضافي على تراكم جميع العناصر التي تؤهل لاحتمال تسجيل انفجار غضب شعبي جديد.
وفي المحصلة، يختلف تقييم التجربة التونسية بين مؤمن بفكرة الديمقراطية في العالم العربي ينظر إلى نصف الكأس الملأى ويعتقد في إمكانية صمودها وتحقيق الديمقراطية، وبين مدافع عن الاستبداد يأمل سقوط كل التجارب، أو متشائم لا يرى إلا الإخفاقات.
يقول الشاب علي المكي، من دقاش محافظة توزر جنوب تونس، إنه على الرغم من الألم الكبير الذي عاشه أيام الثورة، إذ فقد شقيقه الأصغر عبد القادر، يوم 11 يناير/كانون الثاني 2011، الذي ربّاه وكان بمثابة الأب والأم له بعد وفاة والديه، إلا أن الثورة تبقى أفضل أيام في حياته بآلامها وجراحها وعذاباتها. ويوضح أنه لا يوجد أي شيء في الكون يضاهي أن يكون الإنسان حراً وأن يعيش الحرية التي لها مذاق خاص، لم يكن الشعب التونسي ليعرفه أو حتى يحلم به. وبالنسبة إليه، فإن أهم ما كسبه التونسيون بعد الثورة هو الحرية، مشيراً إلى أنه سمّى ابنه عندما وُلد على اسم عمه عبد القادر، ليذكّره بتلك الحرية والدماء التي ضحّى بها التونسيون. وبالنسبة إليه، فإنّ المسار الذي تسير عليه تونس بعد 8 سنوات من عمر الثورة يُقيّم بإيجابياته وسلبياته. ويوضح أن الثورة اندلعت لأن الشعب التونسي كان يعيش في القمع والاستبداد والظلم، وعندما انتفض فقد انتفض على كل ذلك. ويؤكد أنه لا يتفق مع الرأي الذي يقول إن الثورة التونسية لم تحقق مكاسبها، بل على العكس من ذلك، فهي حققت، من وجهة نظره، أهم مكسب لها، وهي أنها حررت الشعب التونسي، إذ لم يكن يحق لأي تونسي أن يتكلم، أما بعد الثورة فرُفع حاجز الخوف. ويشدد مكي على أن سنوات الثورة التونسية الثماني عمر قصير في عمر الثورات، وإلى اليوم تدفع تونس ثمن أخطاء بن علي وعائلته وثمن الفساد الذي استشرى، مبيناً أن الوضع الاقتصادي سيتحسن، لكن الإشكال يكمن في أن من تقلّد السلطة بعد 14 يناير 2011 ظل متشبثاً بعقلية إرضاء الغرب وتلبية مصالحه، كالرضوخ لإملاءات صندوق النقد على حساب الشعب التونسي، لأن البقاء في السلطة يكون بترضية الأجنبي وليس أبناء الوطن، بحسب رأي من في السلطة. ويرى أن الذين يتولون السلطة لم يقتنعوا، لغاية اليوم، بما اقتنع به التونسيون، لجهة أن مصلحة التونسيين تأتي أولاً، فرغم أن الشعب هو الذي انتخب من هم في السلطة الآن، إلا أن هذه السياسات المفروضة كانت على حساب أحلام أبناء الشعب. ويدعو مكي السياسيين إلى تحقيق أحلام أبناء الوطن أولاً، لأن من لا يهتم بالإصلاح والمحاسبة العادلة، فإن مصيره الفشل ولا يبني دولة المستقبل، وجيل اليوم لا يزال ينتفض لأنه يفكر ويحلم بغد أفضل.
من جهته، يقول الأمين العام للحزب الجمهوري التونسي، عصام الشابي، أحد أبرز المعارضين التونسيين قبل الثورة وبعدها، إن مسار الانتقال الديمقراطي في تونس لم ينجح، إلى حد الآن، غير أنه صمد إزاء العديد من التقلبات والأزمات والعثرات، وأمام إخفاق المنظومة الحاكمة في تعزيز مكاسب الديمقراطية واستكمال بناء الهيئات الدستورية وتطوير التعددية السياسية والإعلامية.
ويعزو الشابي، في حديث مع "العربي الجديد"، هذا الصمود، إلى نجاح تونس، رغم العثرات، في تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية، بصرف النظر عما شابها من اختلالات، فضلاً عن تنظيم انتخابات بلدية، ما يجعلها تحافظ على كونها نموذجاً عربياً واستثناءً في ترسيخ الديمقراطية وتكريسها، خصوصاً بعد أن نجحت أيضاً في القطع مع المنظومة السياسية القديمة.
وينبّه الشابي إلى أن المصاعب اليوم أصبحت كثيرة، إذ أن أزمة الحكم المتواصلة منذ عشرة أشهر تثير القلق حول خطورة خروج الوضع في تونس عن السيطرة. وبالنسبة إليه، فإن الرأي القائل بأنه ما بعد انتخابات 2019 ستكون مرحلة تلبية المطالب الاجتماعية غير صحيح، لا سيما أن قراءة الوضع الحالي تكشف أن الانتخابات المقبلة ستكون المطالب الاجتماعية محورها الأساسي، ولا يمكن التعويل على صبر التونسيين في غياب كل الحلول لمشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية العالقة منذ الثورة، مع بروز انحياز الطبقة الحاكمة للفئات المترفة ولوبيات الأموال. ويتوقع الشابي أن تشهد تونس، خلال الأشهر المقبلة، هزّات ستحدد وجهة جديدة لتونس.
ويحيل الشابي إلى الإخفاق الاقتصادي والاجتماعي الذي رافق كل حكومات ما بعد الثورة، برغم التقدم السياسي الواضح، والإنجاز الحقوقي الكبير الذي تجسّد في عشرات القوانين المكرّسة لحقوق الإنسان والمؤسسات الضامنة للحياة الديمقراطية، والقطع نهائياً مع إمكانية العودة إلى الاستبداد.
من جهته، يعتبر الأمين العام لحركة الشعب، زهير المغزاوي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن العودة إلى الشعارات التي رُفعت خلال فترة الثورة التونسية تظهر أنها نصت على استحقاقين بذات الأهمية؛ أولهما سياسي، وثانيهما اجتماعي محض.
ويوضح المغزاوي أن الاستحقاق السياسي يجمع تحت رايته حرية الإعلام وحرية التعبير وحق التنظم والحياة الحزبية والسياحية. وبالنسبة إليه، فإن "هذه المطالب تحقق منها الكثير، على الرغم من تدخّل الأطراف الأجنبية لمحاولة توجيه الثورة التونسية وتحريفها واختراقها من قبل المال السياسي الفاسد". ويكمل المغزاوي قائلاً "أما الاستحقاق الاجتماعي في المناطق الداخلية، فقد قام على مطالب التشغيل وتحسين الخدمات وخلق فرص العمل للشباب، ولم تتحقق هذه المطالب بعد".
ووفقاً لتحليل المغزاوي، فإن المسارين لم يتقدما بالتوازي وبذات السرعة، ما جعل المسار الديمقراطي معزولاً في الزمان والمكان ومهدداً بزوابع وزلازل اجتماعية قد تعصف به. ويلفت الأمين العام لحركة الشعب، إلى أن حالة العزوف عن التصويت، وتراجع الشباب عن المشاركة السياسية، وارتفاع وتيرة الهجرة السرية، وموجة الإحباط التي انتشرت في تونس، كلها مؤشرات على الفشل الذريع في تحقيق الاستحقاق الاجتماعي. ويحذّر من أنه إذا لم تتم صياغة حوار وطني حقيقي يقوم على تحقيق توقعات الناس، خصوصاً الجهات المهمشة التي أعياها الانتظار ولا يمكن تسويفها أكثر، فإنه يوجد خطر حقيقي اليوم.
وعلى امتداد السنوات الثماني الماضية، انتخب التونسيون مجلساً تأسيسياً قاد إلى كتابة دستور جديد، وأنجزوا انتخابات تشريعية ورئاسية شفافة ونزيهة شهد لها العالم، برغم أخطائها. ثم قاموا، منذ أشهر، بأول انتخابات بلدية تعددية ونزيهة تقوم على فكرة ترجيح الأطراف على المركز، وتفوّض السلطات تدريجياً إلى المحلي، وأشهرت هيئات مستقلة للقضاء والإعلام وحقوق الإنسان والانتخابات وغيرها، ولم يبق نظرياً إلا استكمال المحكمة الدستورية التي تمت المصادقة على قانونها في انتظار انتخاب أعضائها.
ولعل الأهم هو إنهاء الخلاف حول الطريقة التي تعالَج بها جراحات الماضي الأليم، بعد أن استكملت، يوم السبت الماضي، هيئة الحقيقة والكرامة المعنية بالعدالة الانتقالية مهماتها. وتابع التونسيون، مباشرة على الهواء، قصص العذابات التي واجهت عائلات تونسية من كل التوجهات الفكرية، وانتبهوا إلى ما تعنيه بالملموس كلمة الدكتاتورية والحكم الفردي، ما جعلهم فائقي الحساسية تجاه أي إشارة إلى ضرب حرية التعبير والحريات السياسية. كما أدت الشهادات إلى رفع منسوب تقدير مفهوم حقوق الإنسان لدى العامة، ما يعني تغييراً في العقليات، وهو التغيير الأهم والأعمق.
ويعتبر المحلل السياسي عبد اللطيف الحناشي، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ التغييرات التي عرفتها تونس كانت عميقة، شملت العقليات التي تغيرت بشكل جذري، خصوصاً في مجال الحريات، إذ أصبح المواطن التونسي يعيش نوعاً من الحرية ويمارسها في الشارع والإدارة. ويعد هذا الأمر من أكبر المكاسب، وهو مهم ومقدمة لتغييرات أخرى. لكنه يوضح أنه على الرغم من ذلك، سُجِّلت بعض المظاهر السلبية، تتعلق بتفاقم ظاهرة العنف، خصوصاً على المستوى الاجتماعي، وهي مسألة خطيرة، إذ تضاعفت وتيرة العنف، خصوصاً أن هذا الأمر يعبّر عن نوع من الخيبة أصابت المجتمع، وكأنه فهم الحرية بشكل مختلف. وبالنسبة إليه، كشفت الثورة التونسيَّ على حقيقته، حيث تصاعدت لدى البعض الأنانية والمصالح الذاتية على حساب المصلحة العامة، كما سجل تدهور كبير للقدرة الشرائية للتونسي، ما ولّد نوعاً من الإحباط، لأنه كان ينتظر أن تحقق له الثورة الكثير من المزايا، نتيجة التراجع على المستوى الاقتصادي. ويؤكد الحناشي أن النخبة السياسية لم ترتق إلى تلبية جزء من مصالح الشعب التونسي، وهو ما يكشفه أداؤها، سواء داخل مجلس نواب الشعب أو خارجه، نتيجة عراكها المستمر ولا مبالاتها. ويلفت إلى أن المحللين يمكن أن يجدوا مبررات للخيبات التي يعيشها التونسي، بمعنى أن الثورات في الانتقال الديمقراطي تواجه العديد من الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية، وتطول الفترة، إذ أن تاريخ 17 ديسمبر 2018 هو الذكرى الثامنة للثورة. وبالمقارنة مع تجارب في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، يتبين أن الوقت لا يزال أمام تونس، خصوصاً أنها نجحت في تحقيق مكسب دستوري من حيث كتابة الدستور والتعددية الحزبية، وقطعت شوطاً في الحريات، رغم أن البعض لا يعي أهمية ذلك الآن.
ويرى الحناشي أن الثورة واجهت صعوبات من حيث الاقتصاد والارتباط بصندوق النقد الدولي، وهو ارتباط في الأصل قديم يعود إلى 1986، أي عندما ارتبطت تونس ببرنامج الإصلاح الاقتصادي الذي فرضه صندوق النقد الدولي، ومن أجله جاء بن علي، لكنه فشل وتضاعفت الأزمة، وبالتالي ليست الثورة هي التي أدت إلى كل هذه المشاكل، بل هي تراكمات منذ 1986. كما تطرّق إلى دور الأزمة الليبية بوصفها "عاملاً أساسياً ساهم في عدم تحقيق الثورة شعاراتها". وبالنسبة إليه، فإن "الفراغ السياسي والأمني في ليبيا أدى دوراً في ذلك، لا سيما أن ليبيا تشكل الفضاء الحيوي للاقتصاد التونسي. وكانت تونس تصدّر كميات هامة من إنتاجها إلى ليبيا، وبعض المؤسسات لديها فروع في ليبيا. كما أن أكثر من 20 ألف تونسي كانوا يعملون هناك. وكانت تونس مركز استقطاب للسياح الليبيين في المجال الصحي. وعوّلت تونس كثيراً على ليبيا لتعافي الاقتصاد، ولكن حصل العكس بعد الثورة الليبية". كما توقف عند الاعتداءات الإرهابية التي تعرضت لها تونس، والتي "أثرت بشكل عميق على الاستثمار والسياحة"، فعملية باردو وسوسة أثرت على تدفق السياح، ما عطل النمو الاقتصادي. كما جاءت مطالب العمال، خصوصاً في الحوض المنجمي. ويلفت إلى أنه رغم شرعيتها، إلا أنها أثّرت على الأداء الاقتصادي.
على الرغم من هذه الأزمات، يعتبر الحناشي أن تونس عرفت نجاحات على المستوى السياسي، وهناك اليوم بعض التعافي اقتصادياً، وبالتالي فإن 2019 وربما انتخابات 2019 قد تنهي المرحلة الانتقالية، لتمر تونس إلى مرحلة جديدة، تكون فيها العديد من المسائل أوضح. ويبدي تفاؤلاً بخصوص تجاوز العديد من الأزمات، ما سيمكن تونس من دخول مرحلة جديدة، وتحقيق جزء كبير من الشعارات التي رُفعت بعد الثورة.