بين الحين والآخر، تثير تصريحات مسؤولي الحكومة التركية، حول العلاقات المصرية التركية، جدلاً إعلاميا وشعبيا واسعا. آخر تلك التصريحات كان ما قاله رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، بأنه لا مانع من تطوير العلاقات الاقتصادية بين تركيا ومصر وعقد لقاءات بين مسؤولي البلدين، مع استمرار الموقف التركي الرافض للانقلاب على محمد مرسي، أول رئيس منتخب ديمقراطيا في تاريخ مصر الحديث.
وقال رئيس الوزراء التركي، في حوار أجراه مع قناة "TRT Haber" التركية (رسمية)، تم بثه ليلة الاثنين 27 يونيو/حزيران الجاري: "يمكن أن يذهب مستثمرونا إلى مصر، وأن يطوروا من استثماراتهم، وقد يؤدي ذلك مستقبلا لتهيئة المناخ لتطبيع العلاقات، وحتى إلى بدء علاقات على مستوى الوزراء، لا يوجد ما يمنع حدوث ذلك وليست لدينا تحفظات في ما يتعلق بهذا الموضوع.. من الممكن إجراء زيارات متبادلة بين المسؤولين ورجال الأعمال في البلدين، واتصالات متبادلة تتعلق بالمجال العسكري".
وبحسب ما نقلته وكالة الأنباء التركية (الأناضول)، أضاف يلدريم: "الأمور واضحة جدًا في ما يتعلق بمصر، حدث انقلاب على الديمقراطية، وتم الانقلاب على مرسي الذي جاء إلى منصبه بالانتخاب، وأعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ البداية للعالم أجمع، أن ما حدث هو انقلاب، وأننا لا يمكن أن نوافق على التغيير بهذه الطريقة. هذا جانب من المسألة، إلا أن الحياة تستمر على الجانب الآخر. فنحن نعيش في المنطقة نفسها، ونحتاج لبعضنا البعض (...) لذلك لا يمكننا قطع كل شيء فجأة حتى لو أردنا ذلك. هذا دون أن نشير إلى الروابط الدينية والثقافية التي تربط البلدين".
وفي جملة فتحت الباب لكل التساؤلات المستقبلية، قال يلدريم: "لذلك فإننا إذا وضعنا جانبًا الشكل الذي تغيّر به النظام هناك (مصر)، وما يتعرض له مرسي وفريقه من ظلم، فإنه لا يوجد مانع يتعلق بتطوير علاقاتنا الاقتصادية".
ويثير الحديث عن تنحية قضية شرعية النظام الحالي أو السابق جانبًا، ردود فعل واسعة حول مصالحة يبدو أنها تطرق الأبواب بين النظامين المصري والتركي.
الرد المصري
وفقا لرد الفعل الرسمي المصري، فإن هذه التصريحات تم وصفها بـ"المتضاربة"، إذ تناول المتحدث باسم وزارة الخارجية أحمد أبوزيد، في رده على ما وصفه بـ"التأرجح" ما بين إظهار الرغبة في تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية مع مصر، واستمرار حالة عدم الاعتراف بشرعية 30 يونيو وما نتج عنها من أوضاع سياسية ومؤسسات. إلا أن أبو زيد رحب بالرغبة في تحسين العلاقات مشترطًا الاعتراف بشرعية 30 يونيو وما نجم عنها.
تصريحات مماثلة
لم تكن تصريحات يلدريم هي الأولى في هذا السياق، ففي مقابلة مع قناة الجزيرة 4 مايو/أيار 2016، دعا رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو الحكومة المصرية إلى حل المسائل الداخلية، لافتًا إلى أنه إذا تم حل مسألة المعتقلين السياسيين، وعادت الحياة إلى طبيعتها، فإن علاقة تركيا ستتحسن مع مصر. وهو ما اعتبره البعض تخفيفًا من الحديث التركي عن عودة محمد مرسي إلى السلطة.
قبلها بأشهر وتحديدًا في 31 يناير/كانون الثاني 2016، وخلال مؤتمر صحافي بالرياض مع نظيره السعودي عادل الجبير، أكد وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، أن تركيا ترغب في استقرار مصر وأن هناك جهودا سعودية للتقارب بين البلدين.
على الجانب التركي، يرى مراقبون لسياسة حكومة العدالة والتنمية أن الإشكالية الحقيقية في إنجاز المصالحة مع مصر هو الموقف الأخلاقي للرئيس رجب طيب أردوغان الذي يرفض التعامل مع السيسي، إلا أنه فتح الباب أمام الحكومة للتواصل الدبلوماسي والاقتصادي مع الجانب المصري.
لماذا يحتاج السيسي لعودة العلاقات مع تركيا؟
بعيدًا عن الأسباب التي تدفع تركيا إلى عودة العلاقات مع مصر، نناقش هنا الجانب الآخر من القصة، هل ترغب مصر في عودة العلاقات مع تركيا، وما هي الأسباب التي تدفع السيسي نحو المصالحة مع تركيا.
أولاً: الشرعية
السيسي لا يزال يؤرقه سؤال الشرعية، وكل اعتراف دولي أو إقليمي بشرعيته يرسخ من سلطته، وفي سبيل ذلك يمكن أن يفعل أي شيء، حتى أنه وقع اتفاقية سد النهضة المجحفة بحصة مصر التاريخية في نهر النيل، إذ منحته إثيوبيا دعمها الكامل في العودة إلى الاتحاد الأفريقي (إثيوبيا دولة المقر) والذي تنص قوانينه على عدم الاعتراف بأي انقلاب عسكري يحدث في دول القارة، وظلت عضوية مصر مجمدة إلى أن عادت بدعم إثيوبي كبير.
وتظل تركيا هي الشوكة الأخيرة في شرعية السيسي بعدما نجح في انتزاع شرعيته دوليًا وإقليميًا، إذ تعلن تركيا في كل المحافل الدولية أنها لن تعترف بالسيسي والانقلاب العسكري، وتؤكد دائمًا أنها عانت كثيرًا من الانقلابات العسكرية وجربت ويلاتها.
ثانيًا: تحجيم المعارضة المصرية على الأراضي التركية
عودة العلاقات تمنح السيسي أوراق ضغط دبلوماسية، للتأثير على تركيا من أجل تقليل دعمها لقيادات المعارضة المصرية، المتواجدة على أراضيها. معادلة السيسي مع تركيا بسيطة، تطبيع العلاقات يعيد فتح قنوات تواصل دبلوماسية واقتصادية وعسكرية وبالتالي أوراق ضغط لتحجيم المعارضة المهاجرة أو تكميم قنواتها التلفزيونية نهائيًا، وهو ما لا يمكن تحقيقه في ظل العلاقات العدائية بين البلدين.
ويعد إغلاق أو تحجيم قنوات المعارضة في تركيا، المطلب الأهم في هذا السياق، إذ إن هذه القنوات والأصوات المعارضة المنتشرة خارج مصر، تعد حائط الصد الأخير أمام بسط السيسي لسيطرته على الإعلام المصري والرأي العام بالتبعية، على الرغم من ضعف إمكانياتها، خاصة بعد استطلاعات الرأي الأخيرة التي أظهرت قناة (مكملين) ضمن القنوات الأعلى مشاهدة في مصر.
وكان موقع "ديبكا" الصهيوني، المقرّب من دوائر أمنية واستخبارية، قال إن المصالحة المتوقعة بين البلدين ستشمل تقييد تركيا حركة ونشاط قيادات الإخوان المسلمين المصريين داخل أراضيها، وسوف تزوّد وتتبادل مع مصر المعلومات بخصوصهم. إلا أن مصادر تركية مطلعة قالت لمعد المادة الصحافية، إن "أي عودة للعلاقات المصرية التركية لن تشمل بحال من الأحوال تسليم أي معارضين للجانب المصري".
ثالثًا: المصالحة مع الإسلاميين
في الفترة الأخيرة تزايدت في مصر نغمة الحديث عن مصالحة بين النظام وبين الإسلاميين، بدأت بتصريحات المستشار مجدي العجاتي، وزير الشؤون القانونية في حكومة السيسي، مرورًا باللواء سعد الجمال، زعيم الأغلبية في البرلمان (موالية للسيسي)، وأخيرًا أسامة هيكل وزير الإعلام السابق وعضو البرلمان المقرب من السيسي، والتي أشارت إلى مادة في دستور 2014 تنص على إقرار قانون العدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية في دورة الانعقاد الحالي للبرلمان والتي تنتهي في أغسطس/آب المقبل.
وكانت الدعوة الأغرب في هذا الصدد، قد صدرت عن زوجة وزير داخلية مبارك حبيب العادلي، العدو الأول للإسلاميين، إذ نشرت الصحافية إلهام شرشر، مقالاً في صحيفتها الخاصة، "الزمان"، بعنوان "ساعدونا حتى نساعدكم"، تتحدث عن جماعة الإخوان، ودعتهم فيه إلى "العودة لأحضاننا"، واستغلال طاقاتهم "في محاربة أعدائنا داخل الوطن"، مشددة على أنهم مصريون، ومسلمون، وإخوة، وأبناؤنا في الوطن، ونشد عليهم بحنان، ولا خلاف بيننا"، و"الحب في الله يجمعنا". ودعت "شرشر" الإخوان إلى تصالح سمته "التصالح الرشيد"، وتشكيل مجلس حكماء لإتمامه.
يمكن القول إنه إذا صحت هذه الدعوات وكانت هناك عملية تفاوض جارية لإتمام المصالحة أو التسوية السياسية، فإن تطبيع العلاقات مع تركيا يمهّد الطريق أولاً لمزيد من الضغط على الإسلاميين، حيث تتواجد أغلب القيادات في تركيا، وتكميم الأصوات المناهضة للمصالحة، وتهيئة الرأي العام بتغيير خطاب القنوات المعارضة المتواجدة في تركيا، أو إغلاقها في حال استعصت على تغيير الخطاب، وهو ما يمهّد لدور تركي بارز في هذه التسوية، برعاية دولية إقليمية.
رابعًا: غزة وحماس
أعلن رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، في 27 يونيو/ حزيران الجاري، أن بلاده توصلت إلى اتفاق لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، بعد قطيعة استمرت 6 سنوات على خلفية سقوط 8 قتلى إثر هجوم بحرية الاحتلال الإسرائيلي على سفينة "مرمرة" التركية التي كانت متوجهة لفك الحصار عن قطاع غزة في 31 مايو/أيار 2010.
ويتضمن الاتفاق تخفيف الحصار عن قطاع غزة وتدفق المساعدات التركية إلى القطاع وإنشاء محطة كهرباء، هذا الاتفاق يعني تزايد النفوذ التركي في غزة على الحدود المصرية، وتمتين العلاقة التركية مع حركة حماس، ولا يرغب السيسي في ترك الساحة الفلسطينية أمام تركيا لتنفيذ أجندتها الداعمة للفلسطينيين وأهل غزة، ما يؤدي إلى ملء الفراغ المصري الناجم عن توتر العلاقات المصرية مع حماس. أو بحسب ما قاله رون بن يشاي، محلل الشؤون العربية بصحيفة يديعوت أحرونوت: "إن مصر التي تجهر بعدائها لتركيا بسبب تضامنها مع الإخوان المسلمين، أعداء السيسي، لن تسمح لأردوغان بموطئ قدم في قطاع غزة، ولذلك حاولت منع اتفاق المصالحة الإسرائيلي التركي".
خامسًا: تخفيف الضغوط الأميركية السعودية
تتلاقى الرغبة الأميركية السعودية في عودة العلاقات المصرية التركية على الرغم من تباين الأهداف، ويتعرض السيسي لضغوط مستمرة من الطرفين لتحسين العلاقات مع أنقرة.
من جانبها، ترغب واشنطن في تهدئة المنطقة المشتعلة وإعادة ضبط بوصلتها باتجاه ما تسميه بـ"الحرب على الإرهاب" والقضاء على تنظيم "الدولة الإسلامية"، ولا بديل عن تعاون مصري تركي بوصفهما أكبر دولتين في المنطقة. ويرى المحلل رون بن يشاي، أنه عندما يتم تطبيع العلاقات بين تركيا وإسرائيل، سوف تضطر السعودية والولايات المتحدة لإجراء مصالحة أيضا بين مصر وتركيا، ووقتها سيكون المعسكر البراغماتي الموالي للغرب كاملا وموحدًا.
أما على الجانب السعودي، فترى المملكة أن الخطر الحقيقي الذي يتهدد المنطقة هو الخطر الإيراني، وتسعى إلى تكوين حلف لمواجهة هذا الخطر، وترى أن الخلاف المصري التركي هو العقبة الرئيسة أمام تكوين هذا الحلف، خاصة في ما يتعلق بالجانب العسكري والذي تعتبر مصر وتركيا هما الكتلة الرئيسية في أي تعاون عسكري، إذ يمتلكان أقوى جيشين في المنطقة.