4 عقود على الثورة الإيرانية: تراكم الأزمات والعداوات

11 فبراير 2019
الشارع الإيراني يتطلّع لحل المشاكل المعيشية (فاطمة بهرامي/الأناضول)
+ الخط -

تُحيي إيران، اليوم الإثنين، ذكرى مرور أربعة عقود على الثورة الإسلامية، التي تغيّرت بموجبها الصورة في البلد كثيراً، وواجهت فيها طهران العديد من التحديات الداخلية والخارجية، وتراكم أمامها ما يكفي من العداوات التي لا تزال تطاردها إلى اليوم. صحيح أن بوصلة علاقات إيران، على مدى العقود الماضية، التفت نحو الشرق تارة ونحو الغرب تارة أخرى، لكن الأبرز كان تحوّل صورة إيران ما قبل الثورة، والتي كانت صديقاً وشرطيّاً لأميركا في المنطقة، إلى عدوّ لها. وتشهد المواجهة بين البلدين، في الآونة الأخيرة، واحدة من أعقد فصولها، فلم تعد تقتصر على مواجهة مباشرة، بعد إعادة فرض العقوبات على إيران، عقب انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي الموقّع بين طهران والسداسية الدولية، بل أصبحت تأخذ أبعاداً عدة وتشترك فيها بعض دول الجوار، التي ترى في طموحات طهران وأدوارها الإقليمية المتشعبة، تهديداً يجب التكاتف لوقفه، حتى لو تطلّب ذلك التحالف مع إسرائيل.

وبقدر أهمية التحديات الخارجية التي تواجه إيران في هذه المرحلة، لا سيما مع محاولة الولايات المتحدة حشد أكبر عدد من الدول لمواجهتها وتقليم نفوذها واحتواء وكلائها في المنطقة من سورية إلى العراق ولبنان، بحسب التعبيرات التي يستخدمها المسؤولون الأميركيون، تدرك القيادة الإيرانية خطورة المشهد المعقد داخلياً، خصوصاً بعد ما مرت به في السنوات الماضية، تحديداً بعد الانتخابات الرئاسية في 2009 التي أعقبتها احتجاجات الحركة الخضراء. وبينما تواجه طهران اليوم، أزمات اقتصادية، تسبّبت فيها السياسة بشكل أو بآخر، فإن ساستها يدركون جيداً أنه يعيش في إيران اليوم جيل لم يعايش الثورة. وهؤلاء تختلف آراؤهم بشأن السياسة الخارجية لبلادهم، لكنهم يريدون حلاً للمشاكل الداخلية التي يعانون منها، تماماً مثلما يدرك الساسة أنفسهم أن عناصر القوة التي راكمتها إيران للوقوف في وجه أي تهديد خارجي غير كافية على الصعيد السياسي المحلي.

الانكفاء نحو الداخل
منذ عودة قائد الثورة روح الله الخميني إلى طهران، بعد أن غادرها الشاه محمد رضا البهلوي، واجهت إيران العديد من العراقيل وانكفأت مضطرةً نحو الداخل على مدى سنين، بسبب الإرث الثقيل الذي خلّفته تحوّلات علاقاتها مع الآخرين أولاً، وبسبب معاناتها من تبعات ما بعد الثورة ثانياً، إذ عاشت مرحلة تخبّط استمرت لعقد تقريباً، اختبرت فيها البلاد وقوع تفجيرات واحتجاجات وإعدامات وتحرّكات لمن شاركوا يوماً في الثورة، لكنهم اعترضوا على الشكل الذي آلت إليه الأمور في السلطة، إلى جانب خوض حرب استنزافية مع العراق استمرت لثماني سنوات.

عقب ذلك، بدأت إيران في بناء عناصر القوة الداخلية التي أصبحت تستخدمها اليوم كأسلوب ردع للأطراف الخارجية، التي تعتبر أنها تشكّل لها تحدياً وتهديداً. وفي العقود الثلاثة الأخيرة، ركزت على ترميم البنية الاقتصادية، وهي المرحلة التي بدأت بعد الحرب العراقية الإيرانية، وتسلّم زمام أمورها الراحل أكبر هاشمي رفسنجاني خلال عهده الرئاسي.
انتقلت الصورة من التقشف إلى الاستهلاك، وحاولت البلاد أن تحقق اكتفاءً ذاتياً، ونجحت في ذلك في بعض القطاعات دون أخرى، وهو ما يجعل الظروف المعيشية اليوم تتأثر سلباً بعودة العقوبات الأميركية، إثر انسحاب ترامب من الاتفاق النووي بين طهران والسداسية الدولية.
يدرك صنّاع القرار في إيران مدى خطورة هذا الأمر، وهو السبب الذي يجعل المرشد الأعلى علي خامنئي يركز على ضرورة تحقيق نظرية يسميها بـ"الاقتصاد المقاوم"، التي ترنو إلى بناء اقتصاد لا يعتمد على عائدات النفط بل على الصادرات الأخرى، ويستند إلى تقليص معدّل الواردات ويهدف إلى تحقيق اكتفاء ذاتي، وهو الأمر الذي لم يتحوّل إلى واقع عملي بعد، على الرغم من أن الجمهورية الإسلامية نجحت في إبعاد المسيطرين الأجانب كالبريطانيين والأميركيين عن حقول نفطها، والذين اعتادوا احتكار الاستثمار والتنقيب هناك في زمن الشاه.


لكنها وبعد أربعين عاماً من الثورة، أصبحت تخضع لواقع تقلبات سوقها النفطي، وانعكاس ذلك بالتالي على وضع مؤشراتها الاقتصادية، بسبب ذات الأطراف التي أصبحت تستخدم ورقة النفط كأداة للضغط على طهران اقتصادياً ولكبح جماح تطوير عناصر قوتها، من منطلق أن انخفاض العائدات يعني تقليص موازنتها الداخلية، وبالتالي تقييد نشاطاتها الأخرى.
هذه النشاطات الأخرى، هي التي برزت خلال العقدين الأخيرين بالذات، فوضعت طهران عنوان تطوير البرنامجين النووي والصاروخي نصب عينيها، بفعل إدراكها حاجتها إلى عناصر رادعة، تحميها من جهة، وتزيد من مناوراتها من جهة ثانية، وترفع بالضرورة مما تراه مشروعية دورها السياسي من جهة ثالثة.

تحديات معيشية واقتصادية
واستبق المسؤولون العسكريون والسياسيون الإيرانيون ذكرى الثورة لهذا العام بتصعيد التصريحات المرتبطة بالبرنامج الصاروخي، الذي تسبّب، بشكل أو بآخر، في الضغط على بلدهم طيلة السنوات القليلة الماضية، وتسبّب أيضا في انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، ولم يمنع فرنسا مثلاً، التي ما زالت طرفاً في الاتفاق نفسه، كما بعض الأوروبيين، من استخدام ذات الملف لمعاقبة طهران التي تصرّ سياسياً وعسكرياً على أن ذلك خط أحمر، وتربطه بأيام ما قبل الثورة. ففي حينه كانت أسلحتها وطائراتها تأتي من أميركا مثلاً، ويشير مسؤولوها دائماً إلى فترة الحرب مع العراق، والتي عانت فيها إيران من نقص السلاح النوعي ومن تخلّي الجميع عنها، كما يقولون، لكنها أصبحت اليوم تصدّر سلاحاً لبعض الأطراف في المنطقة، من قبيل "حزب الله"، وهذا ما يزيد من حجم الدور الإقليمي الذي يضعها تحت الضغط كذلك، ويُدخلها في مواجهة سياسية مع نظرائها الإقليميين كالسعودية، وفي حرب بالإنابة عبر الوكلاء مع أميركا وحتى إسرائيل. وما الكشف الأخير عن مدينة صاروخية جديدة مجهزة تحت الأرض تحتوي على صواريخ أرض-أرض اسمها دزفول، إلا في ذات السياق، الذي يزيد بطبيعة الحال من تحديات طهران بصورتها الحالية العسكرية والسياسية.

وعلى الرغم من كل ذلك، ومن أن إيران أدارت البوصلة نحو الغرب لفترة كي تحصل على امتياز الاتفاق النووي الذي أعطاها مشروعية سياسية لخوض دور في الملفات الإقليمية والدولية، لكنها وبعد أربعين عاماً على الثورة تفضّل التعامل بطريقة توزيع الأدوار بين ساستها، لإدارة استخدام عناصر القوة، آنفة الذكر. ومع ذلك وخلال العقدين الأخيرين تحديداً، لم تتغير كثيراً صورة الانكفاء الإلزامي اقتصادياً، وهو ما ترك تبعات سلبية جمّة، تجعل التحدي أكبر بكثير من كل تلك العوامل الخارجية التي ما زالت طهران تدير كفّتها بحذر وبسياسة موزّعة.

قبل أيام معدودة، أوعز خامنئي لرئيس مجلس الشورى الإسلامي، علي لاريجاني، بإصلاح هيكلية البلاد في الشهور الأربعة المقبلة، وهو ما رآه البعض بمثابة جرس إنذار، كون المرشد بات على قناعة بضرورة إحداث تغييرات في شكل الهيكلية السياسية، ليقدّم بعدها لاريجاني نفسه توضيحاً أدق، فذكر أن التعديلات المطلوبة تتعلق بإعادة هيكلة موازنة البلاد، لا الشكل السياسي، وهذا أيضاً مرتبط بالمشاكل الاقتصادية وبكيفية توزيع حصص موازنة الدولة.

وبينما تختلف الآراء السياسية للإيرانيين بشأن سياسة بلادهم الخارجية، تحديداً في أوساط الفئة الشابة، بين من يؤيدها وبين من يرى أنها تزيد العبء ثقلاً، لكن غالبيتهم يتفقون على مسألة البطء والعجز أحياناً في حل المشاكل المعيشية، وهو الملف الذي يشكل تحدّياً كبيراً لإيران بعد أربعة عقود من ثورة قامت أساساً لأجل تحسين الوضع الاجتماعي والمعيشي، ولتحقيق العدالة الاجتماعية، بعد سنوات طويلة عانى فيها الشعب من نتائج منح الامتيازات للأجانب.

والاحتجاجات التي خرجت في البلاد قبل أشهر، وتكررت أكثر من مرة، كانت لأسباب اقتصادية بالأساس. واعترف بعض المسؤولين بتقصيرهم. ولا تخفي تصريحات بعض المسؤولين التخوّف من النتائج المستقبلية لتحركات من هذا القبيل، وصحيح أن الربط بينها وبين وجود رغبة خارجية بإثارة بلبلة في إيران أفلح عدة مرات، فجعل كثراً يرفضون الاحتجاج أو يدعون إلى وقفه لعدم تهديد الجمهورية الإسلامية، لكن أمام البلاد التي عادت إلى حالة الحظر والحصار، والذي بدأ يؤثر على الظروف المعيشية بوضوح، مشكلة داخلية، قد لا تنفع عناصر القوة التي تقف في وجه تهديد الخارج في بلورة حل لها، وربما يتطلب الأمر أكثر من ذلك على الصعيد السياسي المحلي.