لم يكن تأليف الحكومات في لبنان قبل عام 2005 يحتاج إلى أشهر كما هو الحال اليوم. كان كنعان أو من ينوب عنه، يؤلفها بغضّ النظر عن التوازنات اللبنانية، أو نتائج الانتخابات. كل رؤساء الحكومات منذ الطائف: رفيق الحريري، سليم الحص، وعمر كرامي، كانوا يكلفون نيابياً بتأليف الحكومات بعد أن تعطي دمشق الضوء الأخضر، وكان من ترضى عنه القيادة السورية يصبح وزيراً. بعد عام 2005، انقلبت الموازين. خرج جيش النظام السوري من لبنان، بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، وزالت مع هذا الخروج السطوة الأمنية التي كانت تفرضها دمشق عبر جيشها واستخباراتها سياسياً على لبنان.
تحرّرت عملياً اللعبة السياسية من السطوة السورية، لكن النفوذ السوري بقي حاضراً في التفاصيل السياسية اللبنانية، عبر الحلفاء في الداخل اللبناني، وعلى رأسهم "حزب الله"، و"التيار الوطني الحر" وغيرهما، وعبر رجالات كان يطلق عليهم تسمية "رجالات سورية" في لبنان، مثل رئيس الجمهورية الأسبق إميل لحود.
تدريجياً، تقلّص النفوذ السوري في لبنان، خصوصاً بعد انتهاء ولاية لحود في العام 2008 وانتخاب ميشال سليمان "التوافقي" في العام 2009. لكنّ الحضور السوري ظلّ مطبقاً عبر فريق "8 آذار"، فتحوّل النظام السوري من مسيطر كلياً على البلد ومجلس نوابه وقوانينه الانتخابية، وحكوماته، إلى راعٍ لفريق في السلطة.
شكّل تاريخ العام 2011 نقلة نوعية في الداخل اللبناني. بات النظام السوري أضعف من أن يكون راعياً إقليمياً، خصوصاً مع تدخّل "حزب الله" في سورية، وتحوّله إلى رقم في المعادلة الإقليمية. خرج كلياً من لبنان حتى معنوياً، وبات حتى قرار الحلفاء في لبنان ملك "حزب الله" ومن خلفه إيران.
ومع عودة سيطرة النظام السوري على أكثر من منطقة، واستتباب الأمن، وفرض بقاء بشار الأسد، بدأ النظام يتطلّع صوب لبنان، بوصفه الحديقة الخلفية التي في حال عاد إليها بأي شكل من الأشكال، فإنه سيرسل رسالة قوية للمجتمع الدولي والعربي، مفادها أن النظام السوري عاد ليس فقط في الداخل السوري، بل أيضاً عبر دوره في المنطقة وفي الدول المجاورة.
نجح النظام السوري أولاً في العودة إلى المجلس النيابي اللبناني. أفرزت الانتخابات النيابية الأخيرة كتلة من أكثر من 10 نواب محسوبين مباشرة على النظام السوري، في أكثر من منطقة، ومن مختلف الطوائف. تدرك أغلب المكونات اللبنانية، أنّ العودة السورية إلى لبنان معنوياً شبه مستحيلة. حتى "حزب الله" يدرك ذلك. النظام السوري وإن عاد، لا يزال أضعف من أن يكون قوة اقليمية، هو بحدّ ذاته خاضع لوصايات متعددة على أرضه، ومن ضمنها وصاية "حزب الله" الذي بات بعد السنوات السبع الأخيرة أقوى من النظام السوري، حتى في سورية، وطبعاً في لبنان.
وفي هذا الإطار، تقول مصادر سياسية مقربة من تيار "المستقبل" إنّ محاولات العودة السورية إلى لبنان، على الرغم من جديتها، ليست سوى محاولة معنوية يمكن تسويقها دولياً وعربياً، تمهيداً لفرض عودة النظام السوري لهاتين الساحتين. وبناءً عليه، ركّز النظام السوري بدعم من "حزب الله"، وفق ما تبيّن في الخطاب الأخير للأمين العام لـ"حزب الله"، حسن نصرالله، على العودة إلى لبنان، عبر ثلاثة خطوط متوازية، بحسب المصادر: الأول يتمثّل في فرض التطبيع بين لبنان والنظام السوري، بداية عبر الحديث عن المصلحة اللبنانية في الانفتاح على النظام السوري في أكثر من ملف شائك، لا سيما في ما يتعلّق بموضوع اللاجئين، إضافة إلى موضوع الصادرات اللبنانية إلى الخليج التي تمرّ عبر معبر نصيب الحدودي. الثاني، عبر محاولة إيصال وجوه محسوبة مباشرة على النظام السوري إلى سدة الوزارة، والثالث عبر فرض بند في البيان الوزاري يتحدّث بوضوح عن العلاقة اللبنانية – السورية، كما درجت العادة سابقاً.
هل تنجح العودة السورية إلى لبنان من بوابة الحكومة؟ يبدو السؤال حتى الساعة مدار أخذ ورد. الأكيد أنّ الظروف الدولية لم تنضج بعد، وعليه يحاول الثلاثي؛ "تيار المستقبل" و"القوات اللبنانية" و"الحزب التقدمي الاشتراكي"، مواجهة هذه الطروحات التي أعادت توحيد قوى "14 آذار" على عنوان واحد هو النظام السوري.
وإن كان الملف لا يزال معرقلاً لتأليف الحكومة اللبنانية العتيدة، إلا أنّ كل الاحتمالات واردة. حتى في الأروقة المحسوبة على المعارضين لهذه الخطوة، يقولون إن العودة السورية إلى لبنان، أو على الأقل عودة العلاقات اللبنانية – السورية، تبدو رهينة الموقف السعودي تحديداً، الذي وإن كان معترفاً بعودة النظام السوري، إلا أنّه لا يزال في الموقف المعادي له.
لكن السؤال الرئيسي الذي يدور في أروقة الثلاثي؛ "المستقبل" و"القوات" و"الاشتراكي"، يشير إلى أنّ تغيير الموقف السعودي من النظام السوري ممكن في أي لحظة يفرض فيها الروسي صفقة ما، كما أنّ حلفاء السعودية في المنطقة وخصوصاً الإمارات ومصر، علاقتهما بالنظام السوري جيّدة، وأكثر من قناة مفتوحة بينهما وبينه.
في عام 1989 عند توقيع اتفاق الطائف، سُلّم لبنان للنظام السوري. كان الدور السوري في لبنان ووصايته، تتم برضى عربي، وتحديداً سعودي، ورضى دولي، وتحديداً أميركي. وثمة كثر يشبهون المرحلة اليوم بتلك، طبعاً مع اختلاف كبير بين سورية العام 1989 وسورية في العام 2018.