وحدها كولومبيا، عكس جارتيها فنزويلا والبرازيل، ترسم سلامها الآتي، على وقع الاستعدادات الأخيرة لتوقيع اتفاق السلام النهائي بين "القوات المسلحة الثورية الكولومبية" (فارك) والحكومة الكولومبية، المرتقب في 26 سبتمبر/أيلول الحالي في كارتاخينا، على الساحل الكاريبي، في مكان غير بعيد عن ضريح محرّر أميركا الجنوبية سيمون بوليفار، في سانتا مارتا. اتفاق يُفترض أن يطوي صفحة نزاع أوقع نحو 260 ألف قتيل و45 ألف مفقود و6.9 ملايين نازح، منذ عام 1964.
وكانت الحرب قد نشبت بين الحكومة و"فارك" و"جيش التحرير الوطني" اليساريتين في عام 1964 على خلفية استغلال المحافظين والليبراليين ورجال الأعمال، بموافقة الكنيسة الكاثوليكية، الأراضي الزراعية في كولومبيا. واعتبرت "فارك" نفسها ممثلة للمزارعين وفقراء الأرياف. ثم تناسلت الحروب مع تدخل الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وكوبا وفنزويلا، بشكل غير مباشر، في النزاع. بعدها تكونت مجموعات "كونفيفير" (مجموعات للحراسة شكلتها وزارة الدفاع الكولومبية عام 1994 لرصد مناصري فارك وجيش التحرير الوطني)، وتلاها تشكيل قوات الدفاع الذاتي، وهي حركة يمينية، مناوئة للسلطات، ولـ"فارك" و"جيش التحرير الوطني". وبدأت حربها منذ عام 1997، ضد المنظمتين.
اقــرأ أيضاً
تداخلت معطيات عدة أدت إلى تأجيج النزاع وعدم انتهائه بانتهاء الحرب الباردة 1991، وذلك لكون كولومبيا أرضاً خصبة لصناعة وتجارة المخدرات. أدى ذلك إلى قيام حروب عصابات، بمعزل عن الحروب السياسية، وتحوّل كولومبيا، خصوصاً في عهد أكبر تاجر مخدرات في التاريخ بابلو ايسكوبار، إلى دولة منبوذة من المجتمع الدولي.
لم تتمكن الدولة من القتال على مختلف الجبهات، خصوصاً بعد تماهي بعض عصابات المخدرات والحركات الثورية في مجموعات موحدة، في سياق تأمين الموارد المالية لديمومة القتال وتجنيد عناصر جديدة. معظم هؤلاء العناصر كانوا من الأطفال الذين لم يتجاوزوا سن الـ18، ما أفضى إلى تزايد انتهاكات حقوق الإنسان وارتفاع عدد الأشخاص المخفيين قسراً وانتشار آفة "الخطف مقابل فدية".
ومع ذلك فإن السلام بات أمراً حتمياً بنسبة كبيرة، ولم تعد كولومبيا متأثرة بجوارها، على الرغم من تشابك المصالح الاقتصادية والجغرافية والديمغرافية بين دول القارة الأميركية الجنوبية، وتأثر كل منها بما يحصل في دولة مجاورة. كولومبيا شكّلت استثناءً لهذه القاعدة.
بين البرازيل التي تحيا على وقع خلافات سياسية حادّة، وفنزويلا التي باتت مهدّدة بحرب أهلية، تبدو كولومبيا أكثر تصالحاً مع نفسها. لم تشأ السلطات الكولومبية بقيادة الرئيس خوان مانويل سانتوس، ولا "فارك" بزعامة تيموليون خيمينيز، المُلقّب بـ"تيموشنكو"، التأثر بما يجري في الجوار. الطرفان اختارا السلام، بما يعنيه من بعض التنازلات من جهة، وفرضه على بعض المعترضين داخلياً من جهة أخرى.
انتقد كثر سانتوس لكون بروتوكول اتفاق السلام، الموقّع في العاصمة الكوبية هافانا في 24 أغسطس/آب الماضي، يسمح لزعيم "فارك" في البقاء حراً من الناحية القضائية وعدم محاكمته لـ"جرائم حقوق الإنسان". ما دفع سانتوس إلى القول: "ما كان يجب أن تحدث هذه المأساة ويجب أن نعترف بأن الحكومة لم تتخذ الإجراءات الكافية لمنع الاغتيالات والهجمات وانتهاكات أخرى، على الرغم من أنه كانت هناك أدلة على ممارسة الاضطهاد".
حمّل الرئيس الكولومبي مسؤولية الجرائم والانتهاكات للجميع وإن بنسب متفاوتة. وبحسب رأي الحكومة فإن "المرحلة التي تلي النزاع ستترجم نمواً سنوياً إضافياً من 1.1 إلى 1.9 في المائة، وأمناً أفضل، ومزيداً من المستثمرين الأجانب".
أما "تيموشنكو" فيواجه معضلة تمرّد فصيل صغير عليه، بقيادة أرماندو ريوس، رافضا للتوقيع على اتفاق السلام، ومعتبراً أنه "لن يلتزم بالاتفاق ولن يلقي السلاح، وسيواصل المعركة بمعزل عن القرار الذي اتخذه باقي أعضاء الحركة". وبرر موقفه بأن "الاتفاقات التي يتم التوصل إليها في المحادثات لن تحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، التي كانت الدافع الأول للمتمردين لحمل السلاح قبل أكثر من 5 عقود". لكن "فارك" لا تولي أهمية لأي تمرّد داخلي، فمكاسب السلام أكبر بكثير من الحرب بالنسبة إليها. في هذا الإطار، بدأت الحركة مؤتمرها العاشر في كاغان، معقلها التاريخي، جنوب شرقي كولومبيا، يوم السبت الماضي، على أن ينتهي اليوم الخميس. وأعرب أحد قادة الحركة، كارلوس أنطونيو لوسادا، عن ثقته بأن "المؤتمر سيوافق على اتفاق السلام".
وكانت المشاكل الاجتماعية والاقتصادية حضرت في بروتوكول اتفاق السلام الموقّع في هافانا، عبر الإعلان عن اتخاذ إجراءات تتعلق بالقطاع الزراعي، وبرنامج لتأمين بدائل عن الزراعات غير القانونية التي تشكل مصادر تمويل للمجموعات المسلحة. كما تضمن تعويض ضحايا الحرب، وإصدار عفو يتيح مشاركة مسلّحي "فارك" الذين يتم تسريحهم في الحياة السياسية، وإنشاء منظومة قضائية تعنى بإحلال السلام، تتولى النظر في الجرائم الأكثر خطورة، والبت بمصير المشتبه بهم في ارتكابها.
كما ينصّ الاتفاق على إلقاء حركة "فارك" السلاح، وأن تتحول إلى حركة سياسية شرعية، وأن تقوم بتسريح الأطفال المجندين في صفوفها، فور التوصل إلى اتفاق حول البروتوكول والخطة الانتقالية لإيواء الأطفال. كما يقضي الاتفاق أن يشكل الطرفان لجنة للإشراف على تطبيق وقف الاتفاق، وتشكّلت اللجنة من ثلاثة ممثلين لكل طرف، تتمثل مهمتها في حل الخلافات والسهر على حسن تنفيذ اتفاق السلام، حتى إن كانت مسؤولية تطبيقه تعود للحكومة الكولومبية.
ومن المقرر أن تمتد مهمة اللجنة إلى عشر سنوات، قبل أن يتقرر بعدها تمديد ولايتها من عدمه، وبموازاة ذلك سيتم تشكيل آليات دولية للإشراف على تنفيذ اتفاق السلام، وسيتم إرسال أكثر من 450 مراقباً بإشراف الأمم المتحدة إلى كولومبيا، غالبيتهم من أميركا الجنوبية، للتثبت من احترام وقف إطلاق النار وجمع أسلحة مقاتلي "فارك".
الجهد الكوبي ـ النرويجي المشترك لإرساء السلام الكولومبي منذ أربع سنوات، لاقى دعماً دولياً عاماً. الرئيس الأميركي باراك أوباما التقى سانتوس على هامش اجتماعات الدورة العامة للأمم المتحدة في نيويورك يوم الثلاثاء. ولخص المتحدث الرسمي باسم مجلس الأمن القومي نيد برايس، هدف اللقاء بأن "أوباما يود تقديم الدعم لاتفاق السلام والمساعدة، في ملفات مثل نزع الألغام والتنمية الاقتصادية ومكافحة المخدرات، فضلاً عن التهنئة بالإنجاز".
بدوره ينتظر مجلس الأمن الدولي إقرار الاتفاق في كارتاخينا، ثم المصادقة عليه في استفتاء عام في كولومبيا في 2 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، قبل أن يصدر قراراً في هذا الصدد. وستتولى بريطانيا صياغة وتقديم مشروع القرار وتحديد دور الأمم المتحدة في عملية السلام. مع العلم أن الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، سيحضر حفل التوقيع في كارتاخينا.
في المقابل، لم تنخفض وتيرة العنف الجنائي في البلاد، إذ اغتيل 35 ناشطاً حقوقياً خلال الأشهر الستة الأولى من العام الحالي، بزيادة شخص واحد مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي، بحسب تقرير لمنظمة "سوموس ديفينسوريس" (نحن مدافعون) المحلية غير الحكومية. وذكر التقرير أن "30 ناشطاً قُتلوا على يد قتلة مأجورين"، مشيراً إلى أن "العنف ضد القادة الاجتماعيين للبلاد لا يرتبط حصراً بالنزاع المسلح (بين السلطات وفارك)، من دون إغفال تأثيره. وإن اتفاق السلام لا يعني تقليص المخاطر، للمدافعين عن حقوق الإنسان".
مع ذلك، فإن آخر استطلاع للرأي نشرت صحيفة "ال تييمبو" نتائجه يوم الجمعة الماضي، أكد أن 55.3 في المائة من المستطلعين يؤيدون الاتفاق، بزيادة 9.5 نقاط عن النسبة التي سجلت في استطلاع أُجري قبل أسبوع. ولخّصت الطاهية ديانا كايسيدو، الأمر بالقول إن "توقيع السلام سيغير حياتنا. لن تكون هناك معارك ولا قتلى ولا دماء".
اقــرأ أيضاً
وكانت الحرب قد نشبت بين الحكومة و"فارك" و"جيش التحرير الوطني" اليساريتين في عام 1964 على خلفية استغلال المحافظين والليبراليين ورجال الأعمال، بموافقة الكنيسة الكاثوليكية، الأراضي الزراعية في كولومبيا. واعتبرت "فارك" نفسها ممثلة للمزارعين وفقراء الأرياف. ثم تناسلت الحروب مع تدخل الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وكوبا وفنزويلا، بشكل غير مباشر، في النزاع. بعدها تكونت مجموعات "كونفيفير" (مجموعات للحراسة شكلتها وزارة الدفاع الكولومبية عام 1994 لرصد مناصري فارك وجيش التحرير الوطني)، وتلاها تشكيل قوات الدفاع الذاتي، وهي حركة يمينية، مناوئة للسلطات، ولـ"فارك" و"جيش التحرير الوطني". وبدأت حربها منذ عام 1997، ضد المنظمتين.
تداخلت معطيات عدة أدت إلى تأجيج النزاع وعدم انتهائه بانتهاء الحرب الباردة 1991، وذلك لكون كولومبيا أرضاً خصبة لصناعة وتجارة المخدرات. أدى ذلك إلى قيام حروب عصابات، بمعزل عن الحروب السياسية، وتحوّل كولومبيا، خصوصاً في عهد أكبر تاجر مخدرات في التاريخ بابلو ايسكوبار، إلى دولة منبوذة من المجتمع الدولي.
ومع ذلك فإن السلام بات أمراً حتمياً بنسبة كبيرة، ولم تعد كولومبيا متأثرة بجوارها، على الرغم من تشابك المصالح الاقتصادية والجغرافية والديمغرافية بين دول القارة الأميركية الجنوبية، وتأثر كل منها بما يحصل في دولة مجاورة. كولومبيا شكّلت استثناءً لهذه القاعدة.
بين البرازيل التي تحيا على وقع خلافات سياسية حادّة، وفنزويلا التي باتت مهدّدة بحرب أهلية، تبدو كولومبيا أكثر تصالحاً مع نفسها. لم تشأ السلطات الكولومبية بقيادة الرئيس خوان مانويل سانتوس، ولا "فارك" بزعامة تيموليون خيمينيز، المُلقّب بـ"تيموشنكو"، التأثر بما يجري في الجوار. الطرفان اختارا السلام، بما يعنيه من بعض التنازلات من جهة، وفرضه على بعض المعترضين داخلياً من جهة أخرى.
انتقد كثر سانتوس لكون بروتوكول اتفاق السلام، الموقّع في العاصمة الكوبية هافانا في 24 أغسطس/آب الماضي، يسمح لزعيم "فارك" في البقاء حراً من الناحية القضائية وعدم محاكمته لـ"جرائم حقوق الإنسان". ما دفع سانتوس إلى القول: "ما كان يجب أن تحدث هذه المأساة ويجب أن نعترف بأن الحكومة لم تتخذ الإجراءات الكافية لمنع الاغتيالات والهجمات وانتهاكات أخرى، على الرغم من أنه كانت هناك أدلة على ممارسة الاضطهاد".
حمّل الرئيس الكولومبي مسؤولية الجرائم والانتهاكات للجميع وإن بنسب متفاوتة. وبحسب رأي الحكومة فإن "المرحلة التي تلي النزاع ستترجم نمواً سنوياً إضافياً من 1.1 إلى 1.9 في المائة، وأمناً أفضل، ومزيداً من المستثمرين الأجانب".
أما "تيموشنكو" فيواجه معضلة تمرّد فصيل صغير عليه، بقيادة أرماندو ريوس، رافضا للتوقيع على اتفاق السلام، ومعتبراً أنه "لن يلتزم بالاتفاق ولن يلقي السلاح، وسيواصل المعركة بمعزل عن القرار الذي اتخذه باقي أعضاء الحركة". وبرر موقفه بأن "الاتفاقات التي يتم التوصل إليها في المحادثات لن تحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، التي كانت الدافع الأول للمتمردين لحمل السلاح قبل أكثر من 5 عقود". لكن "فارك" لا تولي أهمية لأي تمرّد داخلي، فمكاسب السلام أكبر بكثير من الحرب بالنسبة إليها. في هذا الإطار، بدأت الحركة مؤتمرها العاشر في كاغان، معقلها التاريخي، جنوب شرقي كولومبيا، يوم السبت الماضي، على أن ينتهي اليوم الخميس. وأعرب أحد قادة الحركة، كارلوس أنطونيو لوسادا، عن ثقته بأن "المؤتمر سيوافق على اتفاق السلام".
كما ينصّ الاتفاق على إلقاء حركة "فارك" السلاح، وأن تتحول إلى حركة سياسية شرعية، وأن تقوم بتسريح الأطفال المجندين في صفوفها، فور التوصل إلى اتفاق حول البروتوكول والخطة الانتقالية لإيواء الأطفال. كما يقضي الاتفاق أن يشكل الطرفان لجنة للإشراف على تطبيق وقف الاتفاق، وتشكّلت اللجنة من ثلاثة ممثلين لكل طرف، تتمثل مهمتها في حل الخلافات والسهر على حسن تنفيذ اتفاق السلام، حتى إن كانت مسؤولية تطبيقه تعود للحكومة الكولومبية.
ومن المقرر أن تمتد مهمة اللجنة إلى عشر سنوات، قبل أن يتقرر بعدها تمديد ولايتها من عدمه، وبموازاة ذلك سيتم تشكيل آليات دولية للإشراف على تنفيذ اتفاق السلام، وسيتم إرسال أكثر من 450 مراقباً بإشراف الأمم المتحدة إلى كولومبيا، غالبيتهم من أميركا الجنوبية، للتثبت من احترام وقف إطلاق النار وجمع أسلحة مقاتلي "فارك".
الجهد الكوبي ـ النرويجي المشترك لإرساء السلام الكولومبي منذ أربع سنوات، لاقى دعماً دولياً عاماً. الرئيس الأميركي باراك أوباما التقى سانتوس على هامش اجتماعات الدورة العامة للأمم المتحدة في نيويورك يوم الثلاثاء. ولخص المتحدث الرسمي باسم مجلس الأمن القومي نيد برايس، هدف اللقاء بأن "أوباما يود تقديم الدعم لاتفاق السلام والمساعدة، في ملفات مثل نزع الألغام والتنمية الاقتصادية ومكافحة المخدرات، فضلاً عن التهنئة بالإنجاز".
بدوره ينتظر مجلس الأمن الدولي إقرار الاتفاق في كارتاخينا، ثم المصادقة عليه في استفتاء عام في كولومبيا في 2 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، قبل أن يصدر قراراً في هذا الصدد. وستتولى بريطانيا صياغة وتقديم مشروع القرار وتحديد دور الأمم المتحدة في عملية السلام. مع العلم أن الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، سيحضر حفل التوقيع في كارتاخينا.
في المقابل، لم تنخفض وتيرة العنف الجنائي في البلاد، إذ اغتيل 35 ناشطاً حقوقياً خلال الأشهر الستة الأولى من العام الحالي، بزيادة شخص واحد مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي، بحسب تقرير لمنظمة "سوموس ديفينسوريس" (نحن مدافعون) المحلية غير الحكومية. وذكر التقرير أن "30 ناشطاً قُتلوا على يد قتلة مأجورين"، مشيراً إلى أن "العنف ضد القادة الاجتماعيين للبلاد لا يرتبط حصراً بالنزاع المسلح (بين السلطات وفارك)، من دون إغفال تأثيره. وإن اتفاق السلام لا يعني تقليص المخاطر، للمدافعين عن حقوق الإنسان".
مع ذلك، فإن آخر استطلاع للرأي نشرت صحيفة "ال تييمبو" نتائجه يوم الجمعة الماضي، أكد أن 55.3 في المائة من المستطلعين يؤيدون الاتفاق، بزيادة 9.5 نقاط عن النسبة التي سجلت في استطلاع أُجري قبل أسبوع. ولخّصت الطاهية ديانا كايسيدو، الأمر بالقول إن "توقيع السلام سيغير حياتنا. لن تكون هناك معارك ولا قتلى ولا دماء".