2019 هو عام الفريق الصحي في مصر... الواقع والأوهام

30 يناير 2019
+ الخط -
"الرئيس السيسي قال لي لا تبخلي على أولادك وعلميهم فى الخارج"؛ جملة صادمة انتشرت على وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، كالنار فى الهشيم، حيث وردت على لسان وزيرة الصحة المصرية، واختلف التناول الإعلامى للعبارة بين مؤيد ومستنكر، وكان من الطبيعى محاولة قراءة الجملة داخل السياق الذي وردت فيه دون اجتزاء أو بتر للمعنى.

فى منتصف شهر يناير/ كانون الثاني الجاري، انتقلت كاميرات إحدى الفضائيات المصرية إلى ديوان وزارة الصحة بوسط القاهرة، حيث مكتب الوزيرة، وكان واضحا خلال الحوار مدى اهتمام المذيع بأهمية الفرصة التي أتاحتها له الوزيرة، ليبدأ معها حوارا طويلا حول رؤيتها وخططها المستقبلية والتي سبق وأعلنت عنها، في أن عام 2019 سيكون عام الفريق الصحي.

شمل الحوار عدة محاور كان من أهمها تصريحات الوزيرة بأن السيسي وجهها نحو الاهتمام بأبنائها الأطباء وإرسالهم للتدريب خارج مصر دون الخوف من نقص التمويل، وكان هذا هو سياق العبارة التي شغلت الرأى العام المصري، ولكن الأمر الغريب هو أن الوزيرة قد طلبت من الأطباء القيام بالتواصل الذاتي مع الجامعات ومراكز الأبحاث والمؤسسات الطبية العالمية واختيار ما يناسب كل طبيب منهم، وتعهدت بأن الوزارة سوف تتحمل كافة تكاليف السفر للتدريب بالخارج!


سألها المذيع باستغراب عن العدد المتاح سفرهم من الأطباء؟ أجابت ببساطة: أي عدد! لأن السيسي أخبرها بعدم وضع تحدي التمويل أمامها بالنسبة للأطباء، وهنا يبرز مدى التناقض بين قول الوزيرة نقلا عن السيسي، وبين واقع وزارة الصحة التي تعاني من نقص حاد في التمويل، حيث بلغت موازنة الصحة عام (2018 - 2019) مبلغ 62 مليار جنيه تشمل: (16 مليار خصصت للمياه والصرف الصحي) بما يمثل نسبة 1.2% فقط للصحة من إجمال الناتج المحلي، بما يخالف نص المادة 18 من دستور 2014 والتي نصت على نسبة لا تقل عن 3% وتزيد سنويا لتبلغ المستوى العالمي، حتى أن مبادرة "100 مليون صحة" يتم تمويلها من خلال قرض أجنبي من البنك الدولى لعدم وجود تمويل محلي، حيث تعاني جميع خدمات الصحة من مشكلة نقص التمويل.

وأعلنت الوزيرة أنها تهتم بالجانب البشري أكثر من المباني والتجهيزات، وبرغم فساد هذه الاستراتيجية، إلا أنه لا بد من وقفة واجبة لتحليل كلام وزيرة الصحة حول التدريب خاصة وأنها أعلنت أنها شغلت مديرة مركز التدريب بمستشفى أورام الأطفال 57357 بالقاهرة قبل توليها الحقيبة الوزارية مباشرة.

ماذا يعني التدريب أو تنمية القوى البشرية؟.. باختصار هو يبدأ بتحديد "الفجوة التدريبية" وتعني الفرق بين كفاءة العامل وبين القدرات والمهارات المطلوب توفرها عنده لأداء العمل المطلوب، وذلك بقياس قدرات الطبيب ومؤهلاته وخبراته وتحديد مقدار النقص فيها لاستكماله من خلال البرامج التدريبية، وهذا يعني أن تصريحات الوزيرة تشمل الكثير من العشوائية في التفكير وغياب دراسات الجدوى مع تخبط واضح في إجراءات التنفيذ.

تصريحات الوزيرة لا تعني باختصار سوى شعارات براقة بهدف اللقطة الإعلامية، ومثال تطبيقي لهذا هو أن وزارة الصحة سبق أن أعلنت أن نقص أطباء التخدير وفريق العناية المركزة من أهم أسباب ظاهرة قوائم الانتظار، وكان الأولى بالوزيرة أن تعلن عن خطة واضحة لزيادة عدد الأطباء في تخصص التخدير وزيادة تأهيل وإعداد فرق العناية المركزة بالمستشفيات.

ومن ناحية أخرى، من الواضح أن وزيرة الصحة لا تهتم كثيرا بإيجاد الحلول لمشاكل الأطباء الحقيقية ومن أهمها..
أولا: توفير بيئة العمل الصالحة لتقديم الخدمة الصحية بكفاءة وجودة من خلال توفير المباني والتجهيزات والآلات والأدوات والمستلزمات والأدوية في إطار من القوانين واللوائح والنظم المناسبة، في حين يشكو الأطباء من النقص الحاد في كل هذه الأساسيات مما يعوق قدرتهم على تقديم خدمة صحية مناسبة للمواطنين، وبرزت المشكلة بصورة حادة في نقص الأدوية والمستلزمات الطبية، وهنا وبرغم أن الوزيرة تتحدث عن ضرورة أن يتعامل الأطباء بإنسانية، إلا أنه حين يضطر الأطباء لكتابة المطلوب ليقوم المرضى بشرائه من الصيدليات الخارجية فإن هذا يسبب لهم مشاكل كثيرة لدرجة أن نقابة الأطباء قد أصدرت تعليمات لجموع الأطباء برفع أية مشكلة لإدارة المستشفى مباشرة.


ثانيا: توفير دخل مناسب لجميع أعضاء الفريق الطبي يكفل لهم حياة كريمة وليس كما سبق أن أعلنت الوزيرة أنها تسمح للأطباء بالعمل في العيادات والمستشفيات الخاصة لزيادة الدخل مع الاهتمام بساعات العمل الحكومية كاملة مقابل اللا شيء تقريبا، وذلك ردا لحق الوطن عليهم في التعليم، وهي مغالطة عاطفية تتغاضى عن فئات أخرى تحصل على أجور تزيد عدة أضعاف عن أجور الفريق الطبي.

ثالثا: تغاضت الوزيرة عن حق الأطباء في بدل العدوى المتناسب مع طبيعة عملهم خصوصا أن وزارة الصحة قد استطاعت استصدار حكم من المحكمة بحرمان الأطباء من أية زيادة سبق أن تم إقرارها لهم. ومن المعروف أن بدل العدوى للطبيب المصري هو 19 جنيها شهريا -ما يوازي دولارا واحدا شهريا-، فى حين أن بدل العدوى للهيئات القضائية يتراوح بين 3 إلى 5  آلاف جنيه مصري شهريا، وكانت المحكمة قد حكمت عام 2016 بأحقية الأطباء في زيادة بدل العدوى بحيث لا يقل عن ألف جنيه شهريا، ولكن وزارة الصحة رفضت التنفيذ وطعنت في الحكم وتمت إعادة نظر القضية ليتم الحكم النهائي برفض أية زيادة للأطباء إلا بقانون من مجلس النواب، وبالطبع فقد أدى ذلك إلى حالة من الإحباط واليأس عند جموع الأطباء بسبب تعنت وزارة الصحة ضد حقوقهم المشروعة.

رابعا: توفير الأمن والأمان داخل المنشآت الصحية.. حيث يتعرض الأطباء والفريق الصحي للعنف والضرب والإهانات المتكررة سواء من المواطنين أو من المسؤولين وحتى من وكلاء النيابة -واقعة مستشفى العاشر من رمضان التي حدثت العام الماضي، والتي انتهت إلى الحكم على الطبيب بالحبس سنة بتهمة تعطيل مهمة النيابة، ومن أفراد الشرطة -حادث مستشفى المطرية عام 2016، والذي انتفض الأطباء بعده في أكبر جمعية عمومية حاشدة حضرها أكثر من 13000 طبيب)، وكان آخرها ما تعرض له الأطباء في مستشفى أبوقرقاص المركزي بمحافظة المنيا يوم 20 يناير الجاري، حيث تعرضوا لإهانات لفظية وتعسف سلطوي من رئيس الوحدة المحلية بالمدينة الهامة في الوجه القبلي بمصر.

خامسا: التدريب والتأهيل والدراسات العليا التخصصية.. وهذه من أهم المشكلات الحقيقية التي تواجه الطبيب المصري، لأن مهنة الطب ليست كغيرها من المهن التي يمكن لصاحبها أن يعمل في مجاله بمجرد حصوله على المؤهل الجامعي، ولكن الطبيب يجب عليه الحصول على الدراسات العليا في تخصص معين حتى يرخص له بالعمل التخصصي، وفي حين يتخرج سنويا قرابة العشرة آلاف طبيب إلا أن الفرصة المتاحة للدراسات العليا بالجامعات تقبل عددا لا يتجاوز الثلاثة آلاف طبيب فقط، ومن ناحية أخرى، وحلاً لتلك المشكلة، فقد قامت الوزارة منذ حوالي عشرين عاما باعتماد درجة الزمالة المصرية وهي شهادة مهنية تم الاعتراف بها في الكثير من دول العالم، ولكن تم إلغاؤها عام 2016 واستبدالها بنظام جديد اسمه شهادة البورد المصري، وما زالت غير محددة المعالم حتى الآن، وفي حين تتحدث وزيرة الصحة عن إرسال الأطباء في بعثات تدريبية خارجية بحسب رغباتهم إلا أنها في الوقت نفسه وقفت عاجزة نحو توفير مجالات التدريب لأطباء الصحة في الجامعات المصرية، وزادت الوزارة في تحميل الأطباء المزيد من الأعباء وأنشأت ما يسمى بهيئة التدريب الإلزامي للأطباء، وتقضي بإجراء امتحان للطبيب بعد تخرجه حتى يمكنه العمل بوزارة الصحة في إجراء غير مسبوق، ويعني هذا ببساطة عدم الاعتراف بالشهادات الجامعية من كليات الطب المصرية.

وفي مؤتمر حضره السيسي في شهر سبتمبر/ أيلول 2018، بمناسبة وفاة عدد من مرضى الغسيل الكلوي بمستشفى ديرب نجم بمحافظة الشرقية نتيجة مشكلة في صيانة الماكينات، أعلنت الوزيرة أن أهم أسباب مشاكل مصر الصحية هي سفر الأطباء إلى الخارج بنسبة تجاوزت 60% من إجمالي عدد الأطباء المصريين، وبعدها صدرت تصريحات رئيس الوزراء بمنع منح الأطباء موافقات السفر للخارج إلا بتوقيع الوزيرة شخصيا كوسيلة للحد من هجرة الأطباء، مما أدى إلى تقديم عدد كبير من الأطباء بطلبات الاستقالة من وزارة الصحة لتزيد المشكلة وتتفاقم حدتها، وكان الأولى بمجلس الوزراء أن يبحث في أسباب المشكلة وكيفية حلها بدلا من إصدار قرارات تعسفية تزيد الطين بلة.. ومن الطريف الإشارة إلى أن وزيرة الصحة قد سبق لها أن أقسمت بصيغة غير لائقة أمام أعضاء لجنة الصحة بالبرلمان المصري بأنها سوف تحاسب الأطباء عن مشكلة قوائم الانتظار، في حين أن الأطباء لا شأن لهم بتلك المشكلة ولا بأسبابها.

أخيرا: جاءت التصريحات الوردية للمسؤولة الأولى عن الصحة في مصر وهي تحمل معاني الدعاية الإعلامية وتعظيم دور السيسي بأنه صاحب التوجيهات والتعليمات ووضع المحددات الصحية بحسب قولها، وذلك لرفع شأن الصحة والفريق الطبي، في حين أنه قد أعلن بوضوح في شهر أكتوبر/ تشرين الأول عام 2017، بقصر الإليزيه فى فرنسا، أنه "ليست حقوق الإنسان هي الضائعة فقط في مصر، ولكن الصحة ضايعة والتعليم ضايع والإسكان والتوظيف ضايع".
4545DF6D-849E-4065-BC5D-A3C71498C4E2
مصطفى جاويش

طبيب ومسؤول سابق في وزارة الصحة المصرية وخبير صحي وديموغرافي، وكان عضوا في مجلس نقابة الأطباء لمدة عشرين عاما، وعمل داخل أروقة قطاع الصحة والسكان لمدة أربعين عاما.متخصص في التخطيط الاستراتيجي وتنمية المهارات القيادية، وإدارة الموارد البشرية. وعمل كباحث في المعهد المصري للدراسات، ونشرت له عدد من الأوراق البحثية عن مشكلات القطاع الصحي والمجتمعي في مصر.