"أنا ذاهب إلى عاصمة الاحتلال… صنعاء". لم يكن هذا التعبير صادراً سوى عن ناشط في "الحراك الجنوبي". يختزل تعبير هذا الشاب، على قساوته، شعور فئة من أبناء الجنوب مفاده أن العلاقة بين شطري البلاد هي علاقة بين طرف "يحتلّ"، وطرف آخر يخضع لـ"الاحتلال". والأخطر أن هذا الشعور ليس استثناءً اليوم يقتصر على عدد محدود من الأفراد، بل بات لسان حال فئة لا يمكن تجاهلها.
ويتغذى هذا الشعور لديها على وقع الفشل في التوصل إلى حل سياسي عادل للقضية الجنوبية، واستمرار الحراك الجنوبي بالمطالبة بفك الارتباط بين شمال اليمن وجنوبه. ويعكس هذا المطلب قناعة لدى أصحاب هذا الرأي بأن التعايش بين شطري البلاد أًصبح مستحيلاً منذ حرب اعادة فرض الوحدة بالقوة في عام 1994، وما تلاها من ممارسات قمعية للنظام الذي كان يقوده الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح.
لم تحمل الثورة الشبابية، حتى اختيار رئيس جنوبي لليمن (عبد ربه منصور هادي)، أي تغيير جذري يتيح لهم تغيير اعتقادهم، فلا الأوضاع السياسية تغيرت نحو الأفضل، ولا حتى الأوضاع الأمنية تحسّنت.
بالنسبة إليهم، بعد مرور عشرين عاماً، لا يزال جزء رئيسي من تحالف حرب 94 يشارك في السلطة، ويمارس النهج نفسه في التعاطي مع مظالم الجنوب. كذلك يشير هؤلاء إلى أن الاعتداءات على أنصار الحراك لا تتوقف، بل وصلت إلى حد تنفيذ عمليات تصفية لناشطين. برأيهم، لم يكن الاعتداء الذي تعرضت له الناشطة زهراء صالح، قبل أيام، سوى الأحدث ضمن هذه السلسلة.
وإن كان من السهل العثور في الجنوب على من هم واضحون في موقفهم الداعي لفك الارتباط، إلا أنه في الجنوب أيضاً من هو حاسم في خياره الداعم للوحدة.
بالنسبة لهؤلاء، الانفصال خيار غير وارد، ويقتصر الحديث على نظام فدرالي وضرورة ادخال اصلاحات تتيح تمتع جميع اليمنيين، من دون استثناء، بالحريات والحقوق. وينطلق هؤلاء من فكرة أن سكان الشمال تعرضوا أيضاً للمعاناة من النظام السابق وتحالف القوى الذي كان يدعمه.
وفي مقابل دعاة فك الارتباط والحفاظ على الوحدة، هناك فئة ثالثة من أبناء الجنوب تشعر بالضياع في التعامل مع الواقع اليمني عموماً والجنوبي خصوصاً. باختصار، لا تملك هذه الفئة "العائمة" قدرة على حسم موقفها.
في جنوب اليمن، سيصرّ أحدهم على أن الجنوب واقع تحت "الاحتلال" قبل أن يضيف أنه موظف لدى الحكومة اليمنية ولا يزال إلى اليوم يتلقى راتبه منها، ولا مانع لديه من المشاركة في مشاريع تنفذ باسم الجمهورية اليمنية. وبالنسبة إليه، لا يوجد على الاطلاق ما يستدعي أي استغراب لأن الأمور في الجنوب تسير هكذا ببساطة منذ عام 1994.
هذه القدرة على المزاوجة بين اعتبار اليمن بلداً "يحتل" الجنوب وبين العمل لدى سلطات "الاحتلال"، ليست سوى انعكاس لتضارب الهويات وتناقضها لدى هذه الفئة. تضارب وتناقض ينسحب على مواضيع عديدة، بينها تقييم الوضع في الجنوب.
بالنسبة للبعض، فإن الغضب ضد القيادات الجنوبية السياسية حيناً، واتهامها بأنها سبب في عدم تحقيق أي حل للقضية الجنوبية، يقابله في حين آخر استماتة في الدفاع عنها من قبل الأشخاص نفسهم.
كما أنّ رفض الحديث عن الفدرالية كخيار مطروح وواقعي لحل القضية الجنوبية، قد يتحول، بعد نقاش طويل، وبعيداً عن الأحاديث الجماعية، التي تشهد مزايدات بين الشباب الجنوبي، إلى خيار مقبول ولكن بشروط.
تكاد هذه الحالة تكون أقرب إلى تصارع هويات، يعجز فيها الكثير من الشباب الجنوبي عن بلورة موقف واضح خاص بهم.
لم يكن يمكن لهذا الوضع في جنوب اليمن أن يصل إلى هذه النقطة لولا مجموعة من الأسباب، لعل أهمها كان رفع سقف الطموحات من دون تحقيق أي منها إلى اليوم.
على وقع تجاهل نظام علي عبد الله صالح للمطالب العسكرية التي رفعها المتقاعدون العسكريون الجنوبيون، تحولت مطالب الحراك الجنوبي من حقوقية إلى سياسية، ودخلت القيادة السياسية السابقة للجنوب بعد انكفائها عن المشهد لسنوات. على الأثر، بدأت تظهر مطالب فك الارتباط عبر مصطلحات "استعادة الدولة الجنوبية" و"التحرير والاستقلال".
ظن الكثير من الجنوبيين أن تحقيق هذا الحلم لن يتأخر كثيراً. لكن مرّت إلى الآن قرابة ست سنوات على انطلاق الحراك، ولم يستطع أصحاب هذا التوجه فرض خيارهم أو اقناع أي طرف دولي بتبني مطلبهم.
ترافق ذلك مع تحول الحراك إلى تيار واسع أراد الجميع أن يشارك فيه، بما يتيح له حفظ موطئ قدم في أي مشروع جنوبي مقبل. هكذا، وجد الكثير من شباب الحراك أنفسهم ينقادون وراء هذا السياسي أو ذاك ويخوضون معاركه.
يختلفون مع من يختلف السياسيون معه، ويتفقون مع من يتفقون معه. هكذا، لم ينجحوا في التخلص من التبعية للقيادات السياسية على الرغم من أنهم يلومونها على أخطاء الماضي والعديد من أخطاء الحاضر.
وعلى وقع غياب أي حل جدي للقضية الجنوبية، وخصوصاً بعد إقرار الحوار الوطني في اليمن للفدرالية من ستة أقاليم، تمسك العديد من شباب الحراك بمواقفه، وازداد البعض الآخر حدّةً في أحيان كثيرة. لكن هناك أيضاً من بدأ يبحث عن تقييم لكل ما جرى منذ أول مسيرة للمتقاعدين العسكريين في العام 2007، إلى اليوم على أعتاب مرور 20 عاماً على حرب 1994، التي غيّرت وجه اليمن، وجعلت من الوحدة التي كان يتغنى بها الجنوبيون قبل الشماليين، بوصفها حلماً لا بد أن يتحقق، أزمة لا يزال يُبحث عن علاج لها.