مرّت المناسبة، كما ينبغي، حُيِّي فيها الشعب الفلسطيني بعد 67 سنة نكبة، وفي تفاصيل التحيات، كما العادة يضيع الوجه الآخر للصورة.
نحن لسنا أمام خزانات نفط فارغة يهرِّب فيها أبو الخيزران جيل النكبة عبر الحدود، تحت شمس كتم الأنفاس ورمي الجثث على المزابل، بل طائرات حديثة، بوثائق وجوازات "غير مضروبة".
أحفاد النكبة هذه المرة لم يورّثوا فقط ذلك الصمود الذي ينهل منه شعراً وقصصاً وحكايا، بل حتى مآسي تلك العروبة النازفة في شقها غير الإنساني.
نعم، طفل واسمه منتصر، 9 سنوات، وأخته اسمها بيسان، وأخرى بيلسان، من مخيم اليرموك... ابن أب منكوب وحفيد جدٍّ منكوب من بلدة الشيخ قضاء حيفا، التي دفن فيها الشيخ عز الدين القسام.
هي بالضبط الحكاية، وليست حكاية التصفيق للصمود...
رأيت منذ أسبوع صوره، على بلاط مطار دبي. يساوَم أبيه به، إما يقبل المغادرة إلى أي مطار يقبله أو إعادته إلى سورية.
حين يصل أحفاد النكبة بجوازات أوروبية إلى مطار اللّد متأملين رؤية قراهم ومدنهم، يُحجزون لساعات أحياناً ويُعادون من حيث أتوا. فقد انتبه المحتل لسيل بشري ورث شعوراً بأن العودة لن تموت...
مشهدنا الآخر غاية في الألم. نعود لنترك التضامن والتصفيق والأشعار جانباً، وكل أغاني المطر وكل الصور التي بالفعل صارت معرضا لسائح يعشق جمع الصور.
كيف هي علاقة الفلسطينيين بالمطارات والحدود العربية؟
إنها ليست بخير، في زمن مصر المخلوع كان مطار القاهرة يستوقفك: انتظر لحظة، وتنساب من أمام المنتظر كل الجنسيات، إلا هو يبقى ينتظر، ليس دقائق بل ساعات وأياماً وأسابيع.
جيد... ذلك نظام كامب دافيد... فماذا عن "الأنظمة التقدمية"؟
زرع لهم القذافي، أمين القومية العربية، ذات يوم من أيام ما بعد أوسلو خياماً على حدود الصحراء مع مصر، يختبر "أوسلو" بهم بعد عقود من العمل. وقبلها ماذا جنت العروبة النازفة في الكويت؟ لا شيء سوى بضعة مئات من الألوف. وفي العراق وصل أحفاد النكبة من أجزم وغيرها ليتعلموا لغة أهل البرازيل.
لنصفق بحماسة إذاً... ونحن نعبّر عن تضامننا...
أأنا أتحدث عن منتصر ابن الـ9 سنوات فقط؟
إنه شعب كامل، رآه ذات يوم وزير لبناني بأنه "نفايات بشرية"... ثم فجأة صار سفاح صبرا وشاتيلا، إيلي حبيقة، ممانع يجلس باسم "أبو علي" في الصفوف الأولى لمهرجانات الممانعة... في نفس بيروت التي اشترطت الفيزا ليعود إليها اللاجئ في التسعينات، مثلما حال فلسطينيي مصر. تخيل نفسك تقيم في السويد ويقولون لك: لا تعد بدون فيزا!
حتى شاهد قبر كان يُمنع أن يدخله شاب لدفن أبيه بكرامة في المخيم. 70 مهنة، إن لم يكن أكثر يُمنع على الفلسطيني قانوناً مزاولتها. لكن أهلاً وسهلاً بـ"العمال الأجانب"، كل ذلك الإذلال ليقولوا للفلسطيني: إسمع... نحن بذلك نحافظ عليك من أجل حق العودة، بينما هو في أميركا يعلم أبناءه عن حق العودة...
مشبوهون ضمناً هؤلاء الفلسطينيين... ليس فقط في مطار الاحتلال (بن غوريون)، بل منتصر الذي لم يعرف من سنواته سوى تسع، سبع منها في مخيم واثنتين في تشرد أردني... و18 يوماً على بلاط مطار دبي...
كيف نطبطب؟
حين نكذب على أنفسنا بأن منتصر سيصدق مستقبلاً بأن ما تعرض له وأبيه على يد من تربى في بيت جده على أصالتهم وشهامتهم، حاتميون، قال لي أبي ذات يوم ليعرفني على عروبتي، ومثلي تلقى منتصر ذات الدرس، لكنه أخذ بجريمة أبيه. تلك الجريمة التي اتهم بها مخيمه، اليرموك بها. جريمة أنه أغاث الملهوف، وكانت النتيجة هي ما نراه، مئة سايكس بيكو عربي ونحن نصفق بحماسة. كيف يصبح خالد بكراوي وحسان حسان وغيرهما من الآلاف "قليلي أدب"؟
وائل ومنتصر في مطار دبي مثلما كان مطار بيروت وعمان ودمشق والقاهرة يلفظ الفلسطيني كمشبوه على وزن الشهداء والأسرى الذين حكم قضاء السيسي بإعدامهم.
ماذا تصنع هذه العروبة بطفل بعمر منتصر؟
بالتأكيد سيقف مدهوشاً ومصدوماً وستحفر عميقاً هذه التجربة، وسيصرخ في كوابيسه، ربما تكون تحت سماء غربية أو ماليزية: "لقد برد جسدي في مطار عربي...".
خيام العروبة تلك لم يعد أمامها سوى دخان نار يعمي القلوب.