1. الأبله المقدّس
لم أكنْ في حقيقةِ أمري سوى خاطرة
عبرتْ رأسَكَ المُبتلى بالخواطر.
ربما خلّفت قطرةً من عرقْ
فوق جبهتك،
جفّفتها الرياحُ التي قد أقمتَ بها،
أيها الأبله المقدّس.
مُحتفٍ بانتسابي إليكَ: أنا
حفنةُ الأسئلة،
ركنُ محرابكَ القديم.
15/9/2009
■ ■ ■
2. السؤال
تمتدّ فوقَ الحقل
أسلاكُه الشائكة
للأفق. أبدو كأني خوذةٌ تعتلي
فزّاعةً للطيور،
في حقلِ ألغامٍ. ضللتُ الطريقْ
في البحث، لم تُهْدِني
خارطةٌ، كمْ صُنتُها من حريقْ
أو بللٍ.
وكمْ حفظتُ اللونَ فيها بما
أملكُ من لونٍ!
صدى خطوتي
يئزُّ في الأسلاك،
مُنفرداً!
16/9/2009
■ ■ ■
3. مسرّةُ يومي
لستُ ممن إذا ما تريّث في رأيهِ انطفأ،
أو تعثّرَ إنْ سارعَ الخطو.
ومسرّةُ يومي تُطلّ مع الفجر من فُرجةٍ في الستارة،
في غرفةِ النوم،
تسكنُ ذاكرتي مثلما يسكنُ القصبُ الماءَ،
طيعةً، كالأوزّ العراقي،
ثمَّ تحاولُ بي خدَراً في المفاصلِ،
علّي، إذا ما سكرتُ بها، أتجاوزُ حدّ الكلامْ.
ومع الليل ترتدُّ خلف الستارةِ، بارعةَ الاستدارة كالبدر.
أغفو بطيئاً، وهي تغفو معي وتنامْ.
17/9/2009
■ ■ ■
4. لمَ اللحنُ الحزين؟
لمَ اللحنُ الحزين يجيشُ وسط النخلْ،
وهذا الموجُ، يضربُ صفحةَ الزورقْ؟
لم التُرَعُ، التي سُدّت مخارجُها،
على مهلٍ تلوّن مثلَ حرباءٍ غُلالتَها بلون الوحلْ،
وهذي الكفُّ لا تنفكُّ تضربُ بابَنا المُغلقْ؟
لماذا يحرصُ الوطواطُ أن يطوي هياكلَنا
بليلِ ردائه الأليلْ،
وما فتئتْ تفيضُ بعتمة الأشباحِ غابتُنا، ولا نجفلْ؟
4/10/2009
■ ■ ■
5. مأزق موسيقي
لا تُرخِه إبهامَ كفّكَ اليمينْ
عن فُتحةٍ في أسفل الناي. دعْ المُبادَرَة
جاهزةً في خُنصر الكف اليسار، واحترسْ
من أنْ تجاري ضابطَ الإيقاع في الأصابعِ المجاورَة.
كنْ مع إيقاع تنهداتك
من أجلِ أن تحررَ اللحنَ.
17/10/2009
■ ■ ■
6. للملاك الذي زارني
للملاك الذي زارني،
وأنا مرتمٍ تحت أشجار فصلِ الخريف،
كنتُ أمليتُ هذي المُناجاة:
حين يفتقدُ الطيرُ وقعَ خطاكَ الأليفْ
فوق حاشيةِ الفجر. حين يغادرُ ألوانَه الغصنُ،
والماءُ يوشكُ أنْ يتجمّد.
حين يبدو العواءُ المخيفْ
أثراً دامياً لمخالبَ فوقَ زجاجِ النوافذ.
حين يرمي ابنُ آدم سلّمَ آماله لذُرى مُرتقاكْ،
مُستجيراً، ويضطربُ المنشدونْ،
وقد استعصت الكلماتُ على اللحن: "منْ لي سواكْ،
يا صفيّي الملاكْ؟".
4/11/2009
■ ■ ■
7. مسألتان: الموت هنا، ووجودُ الله هناك!
"الموتُ هنا، ووجودُ اللهِ هناك."
أجبتُ على عجلٍ،
وخرجتُ من الخمارة!
كان البردُ، ومنتصفُ الليل
قد أحيا الزرقةَ خلفَ الأنجم، وأزالا
أثرَ الأحياءِ من الطرقاتْ.
أشباحُ زوارقَ وسط قُشَعْريرة ماءٍ مضطربٍ.
رائحةُ نفاياتْ.
كلبٌ يتأملني ثانيةً، ثم يغادرُ دون مبالاةْ.
وكما لو كنتُ أواجهني في مرآةٍ، خاطبتُ النفسَ:
أتسعى خلفَ المجهول،
ولقوتِ غدٍ تتسوّلُ؟ من ينتصرُ على منْ
في معترك يمينك وشمالك؟
ولمن ستُخلّفُ حفنةَ أوصالك؟
قلْ لي؟
لا شيء يجاورني.
تلتفّ خيوطُ الفجر على أُذني
صوتاً فضياً، يسألني: من أنت؟ أقولْ:
أنتظر الشمسَ، ستمنحني
ظلاً، هو ألصقُ بالأرض،
وعليها يقصُرُ ويطولْ
من دوني. وإذا غابتْ غادرني،
وانتسب إلى المجهولْ.
18/11/2009
■ ■ ■
8. محاولة
كنتُ فيما مضى
شاعراً يتوسط قطبين،
منتشياً بالسباحة بينهما:
يقظاً مثل رائحة البنِّ،
منتصباً كعصا،
وكسوقِ الخُضارِ كثيرَ الصخب.
وأنا اليوم أٌقطعُ خيطَ المتاهة
عامداً، حيثُ أعرفُ أن لا مآلْ.
أتبعثر عن رغبةٍ،
فأُلاشي المسافةَ بين "الضرورةِ" و"الاحتمالْ".
21/11/2009
■ ■ ■
خاتمة
زارَ الطائرُ المُحنّى الصدر؛ الطائرُ الصغيرُ الذي لا يُحسن الغناء. زار ثانيةً حديقة َ المنزل، البيضاءِ بفعل الثلج. احتلَّ طرفاً من غصنٍ، بالغِ الرقةِ، أجرد. وبحركةٍ عابثةٍ لم أفهمْ معناها جعلني أنصرفُ له يقِظاً. وحين اطمأنّ خاطبني، كمُرشدٍ على ناصية: نسيتَ دون شك. لا عجب.
مرّت سنواتٌ ثلاثون على لقائي الأول بك. كنتَ تعبرُ المانش على سفينةٍ عتيقة من فرنسا. وكنتُ أنا أولَ من استقبلك على الساحلِ البريطاني. معكَ حقٌّ في النسيان، بل معكَ حقٌّ في الغفلة. أسرفتُ في الحركةِ العابثةِ على مقربةٍ منك؛ الأمرُ الذي أجبرك على الاستدارة. ولكنكَ لم تنتبه لحضوري. كنتُ أخاطبُك. ولعلّكَ سمِعتَني، وبلعتَ الدهشةَ مع مذاق الملح القادم من البحر. اليوم تبدو أكثرَ اكتراثاً بي. فمنذُ أوّلِ رعشةِ جناحٍ استدارَ قلبُك، ولمْ تتخلّفْ عيناك.
أعجبَتْكَ الاستدارةُ الصغيرةُ لتكويني، استدارةُ الرماد البني، على سطح هذه الخلفية من الثلج الأبيض. وعجبتَ كيف احتملني الغصنُ الرقيقُ الأجرد، غافلاً خفّةَ وزني، بل انعدامَه الكامل. ثلاثون سنةً هي عمرُ هجرتي، أنا الآخر، إلى الغاب الذي حلمتَ به أنتَ، ولم تقصِدْه. كنتُ هناك أرعى بأسىً بالغٍ كلَّ قِطعانِ أمانيكَ المفترضة، كلَّ سُحبِ الاحتمالات، التي كنتَ تعبّئُ قصائدَكَ بأطيافِ خيالاتِها الزائرة. أرعاها بأسى العارفِ أن مقاومتَكَ لنْ تنفَد.
لمَ كلُّ مكترثٍ بالضوء مأساويٌّ، ومعتم؟
لا أسألكَ، ولا أنتظرُ إجابةً. أنتَ أوحيْتَ لي بذلك. النساءُ الموشّحاتُ خشيةَ الضوء يرعَيْنَ قامتَكَ المنحنيةَ قليلاً. يتصفّحْنكَ ككتابٍ رقّقَ من أوراقه القدم. ويُحطنَ شتاءك بالقدّاس. مرةً واحدة قصدتُكَ بدافعِ الفضول، في منتصفِ ليلٍ، فوجدتُك فاغرَ الفمِ تحت فراشك، مُلتمّاً على نفسك كعلامةِ استفهام. لم أترك حتى نفَساً من بخار رئتي على زجاج النافذة المغلقة.
الليلُ ينتصفُ الآن، والشررُ المتساقطُ من الألعاب النارية سرعان ما يترك أثراً من رماد على الحديقة البيضاء. الألعابُ الناريةُ في سماءِ لندن تعيدُك إليّ بين حين وآخر، تُذكّرك بي. ولكن عينيكَ اللتين تَعْشيان ليلاً استسلمتا للظلام الذي هدأ. ومن هذا الظلام شئتُ أن أغادرَ، دون أن أقول: وداعاً.
هل ستسمعُني لو قلتُ؟
31/12/2009
* قصائد من "الأعمال الشعرية الكاملة" قيد النشر لدى "منشورات المتوسط"، تنشر في "العربي الجديد" بالاتفاق مع الدار