في مطلع كتابه "الفضائل الموسيقية"، يكتب الشاعر العراقي فوزي كريم: "منذ قرابة ربع قرن وأنا أنضج، داخل حقل المعرفة الموسيقية، كشاعر"، وربما تكون هذه العبارة من أجمل المداخل إلى كتاب من هذا النوع، إلى جانب أنها تطرح السؤال القديم المتجدّد حول علاقة الشعر بالموسيقى كشكلَين إبداعيَّين من جهة، والموسيقى بصفتها مكوناً أساسياً وتاريخياً من الشعر من جهة أخرى.
وفي كتاب "الموسيقى والرسم"، يقول "كما كنت أتعامل مع الكتاب في حالة انصراف كلّي للقراءة، كذلك صرت أنصرف بالجدية ذاتها إلى متابعة العمل الموسيقي"، معتبراً أن قصيدته "انتفعت من هذا المصدر"، الذي يعدّه "أسمى وأعمق مصادر البناء في النص الشعري".
يسمح كريم لنفسه في سلسلة الكتب التي وضعها تحت إطار "الفضائل الموسيقية" وهي "الموسيقى والشعر"، و"الموسيقى والرسم"، و"الموسيقى والفلسفة"، و"الموسيقى والتصوف"، التنقل بحرية بين المواضيع، وطرح أسئلة في كل اتجاه، مستنداً إلى معرفة عميقة بتاريخ الأدب والفن كوّنها عبر عقود من البحث والقراءة.
وإن كان الشاعر ينطلق في بداية الكتاب من سؤال حول سبب اندفاع المثقفين إلى فيروز التي تُقدِّم في الأساس شكلاً من الموسيقى الشعبية، فإنه يجد في هذا التساؤل منطلقاً للحديث عن علاقة المثقّف العربي بالموسيقى أولاً، ثم تاريخ الموسيقى في الكتب التراثية العربية، قبل أن ينطلق إلى علاقة الشاعر غير العربي بالموسيقى من خلال نماذج عالمية شرقية وغربية كثيرة، تجعلنا كقرّاء نعقد المقارنات، ويخلص كل منّا إلى نتائجه الخاصة.
يرى كريم أن علاقة المثقّفين بفيروز ليست إلا حالة اختلاقية نتيجة عزوفهم عن فهم الموسيقى الجدية، إذ يكتب: "إن اتساع ظاهرة فيروز في وسط المثقّفين إنما ينطوي على شيء من الإيهام، الذي هو فعل المثقّفين هؤلاء لا فعل فيروز، فقد انتسبوا إليها ونسبوها إلى أنفسهم محاولةً منهم لستر عورة الجهل المريع لينابيع الموسيقى الجدية التي تليق بالمثقّف كما تليق الرواية الجدية والمسرح الجدي وكل مصادر المعرفة الجدية الأخرى. ولعل فيروز أخذت استجابتهم التسترية بصورة جدية، واطمأنت إلى انتسابها إليهم.. لكن هل هذا الانتساب إلى ذائقة مثقّفينا... هو دليل جدية فيروز؟".
ورغم ثقافته الموسيقية الأوروبية العميقة، إلا أن معرفته بالتراث العربي لا تقل عنها عمقاً واتساعاً، فنجد مقتبسات من "الأغاني" للأصفهاني و"الحيوان" للجاحظ وكتابات الفارابي والكندي وإخوان الصفا، جنباً إلى جنب مع المصادر الأجنبية من جان جاك روسو والقديس أوغسطين وأوفيد وفرجيل ويوميات بعض المؤلفين الموسيقيين في عصر الباروك.
كل هذا في سياق اكتشافه لعلاقة الشاعر بموسيقاه، فيفرد صفحات لآراء إليوت وعلاقته برباعيات بتهوفن مثلاً، ليخلص إلى أن للموسيقى نوعين من العلاقة مع الشعر، تلك التي تتجسّد مع الكلمات فتمنحها حيوية وخطاً بيانياً لمسارها، وتلك التي تستبطنها وتتوسّع في التبادل مع اللغة المنطوقة.
كتاب كريم هذا "الفضائل الموسيقية" (دار المدى)، أو لنقل مجموعة كتبه الأربعة التي اندرجت تحت هذا العنوان، هي من الكتب النادرة في الأدب العربي الحديث، حيث يتجوّل فيها المؤلّف بسلاسة في رحلة بين طبقات وأزمان في الأدب والفن التشكيلي وسير الشعراء والفلاسفة والمتصوفة والفنانين والكتب التراثية من ثقافات مختلفة يحرّكه سؤال أساسي: ما علاقة الموسيقى بأشكال الفنون الأخرى؟ فنراه يبدأ الحديث من عمر بن أبي ربيعة، ثم ينتقل مع الصفحات إلى باوند ثم طاغور فموتسارت وسترافنسكي، ويعود إلى فاغنر، وبعد أن يقدم الشاعر مقاربة فريدة لـ "رباعية لوفليد" يلحق كتابه بمختارات من كتاب "الأغاني".