عائدٌ إليَّ...

18 ديسمبر 2016
+ الخط -

ماذا سيحدث لو أني عدت لذلك الطفل ذي الأعوام القليلة. يعشق الكارتون والقصص القصيرة. يختفي مدة العد من واحد إلى عشرة في إحدى حواري المدينة، فيصبح ملكاً للاختفاء في لعبة "الاستغماية"، أو يُجيد مسك الكرة في "صياد وسمكة". يحاول ركوب العجل، فيعانق الجدار مبتسماً يداري خجله، يكرر المحاولة حتى يقود بلا يدين ثم واقفاً كما البهلوان، أو كما تأخذنا الأقدار بلا يدٍ لنا فيها.

أعود إلى المدينة، شوارعها وحاراتها، أبحث عن حائط "الاستغماية" أستند بظهري إلى عشرات السنين. شوارع الحارة الضيقة كانت منتهى عالمنا الصغير، نمسك بالكرة في "صياد وسمكة" فنفوز بـ "فرصة زيادة"، وأصدقائي يفرون من الصيادين داخل إطار نظنه المحيط. كبرنا واتسع الإطار ليضم بين زواياه الدنيا، وما زالت تقذفنا سهام الصيادين، وتطاردنا حيتان البحر وأسماكه.

قبل ثلاثين عاماً، كان فناء المدرسة مسرحاً لـ "عسكر وحرامي". اللعبة لخصت لنا دنيا الكبار، كانت بليغة في تبسيط الدرس، لكننا لم نقرأ الشرح جيداً، ولم ننتبه لـ"الحرامي" يرتدي ثياب الواعظ، ولـ "العسكري" ممسكاً سوط الحاكم. مضى ثلاثون عاماً، وتبادل الجميع أدوارهم كما "الكراسي الموسيقية". الواعظ أصبح سوطاً في يد الحاكم، والـ "عسكري" أصبح "لصاً" في ثوب واعظ، ودارت الدنيا، ومن أجاد لعبة الكراسي صعد السلم، ومن رفض نهشته أنياب الثعابين وطرحته أرضاً.

غادرنا سنوات الطفولة، لكن حب اللعب لم يفارقنا، وأصبحت ألعابنا واقعاً نعيشه، كنا نرمي الزهر فنشتري بـ "بنك الحظ" أراضيَ ودولاً.

الآن، نشقى لنحمل الزهر فقط، ثم يبيعنا هذا لذاك في "لعبة الأمم"، والمزاد لا يتوقف: العراق، سورية، مصر، اليمن، ليبيا، فلسطين ....إلخ. كل شيء له ثمن والحامي حرامي، وتلابيبنا وقلوبنا ومعاصمنا مشدودة "كشد الحبل" بين شرق وغرب، في حرب صفرية كلٌ فيها فائز بشطرٍ من قلوبنا، نَحِنُ لبلادنا وشوارعنا ونخشى الاستقرار فيها، نضيق بالغربة ذرعاً لكننا نأمن فيها، نعيش الحياة المؤقتة بلا مُنتهى. فقط، يتجمد العمر والذكريات والأحلام. فقط نسعد بلحظاتنا الآنية ونُحَسِّنُ ذكرانا الباقية.

جميلة هي كل ذكرياتنا، جميلة هي ألعابنا، وجميل أن نفهم الدرس مبكراً، فنتجاوز بالوعي مشاعر الصدمة، ونألف بالفهم تجاوز الصعاب. نتعاطى الحياة كـ "لعبة"، لا ينسينا عداد السنوات قانونها "المرح ثم المرح ثم المرح"، ولا يشغلنا عمق التفسيرات. فقط.. احتفظ بداخلك بذاك القلب الندي الصغير، اجعله ينبض "فرحاً"، لا تيأس بل تَحدَّ، لا تُحبَط بل تَجاوز، لا تَنشغل بسفاسف الأمور، واجعل منك مركزاً للانطلاق. الآن.. قف على قدميك مقدماً التحية لنفسك، أيها الطفل العجوز تبسم .

أعود للسطر الأول... ماذا يحدث لو انسحبنا من الدنيا قليلاً؟ لا ضجيج، ولا التزامات، ولا صراخ الحياة، ولا أحزاب ولا سياسة، ولا معارك صفرية. فقط سفر إليَّ، وزيارة قصيرة مَعي، وعشق لنفسي، وبحث عني، أُكافِئني إذا أنجزت، وأُسائِلُني إذا قصرت، أنتمي إليَّ، ولا يقيدني شيء.

تغادرني الـ"أنا" إليَّ، أهذبها فتصبح كالظل خفيفة، تغضبني فأرفق بها لتعود إليَّ. "أنا" كما أتمنى أن أراني، مسافراً إلى الإسكندرية، أو زائراً القاهرة، أو في مكة مشغولاً بالطواف، نائماً كما الطفل، عاشقاً كما الزوج، محتضناً كل الذكريات، وحاضراً كل الأمنيات.

أنا ترافقني..

بلا ظل يطاردني..

بلا هم يؤرقني..

أنا ولعبتي وقلبي الصغير..

وظهري على جدار حارتي عائد إليَّ ..

9DC91F88-1742-4645-8BFA-C3E9121DF94E
السيد خضري
صحافي مصري. من فريق "العربي الجديد"، قسم المجتمع.

مدونات أخرى