حين كنّا شبّاناً في نهاية الستينيات من القرن العشرين، كان دأب زملائنا، الأكثر تحزّباً من القوميين والماركسيين بيننا، التحرش اليومي، بداعٍ أو بلا داعٍ بالشخصيات التاريخية العربية. سواء منها تلك التي قادت حروب التحرير، مثل سلطان الأطرش، أو عبد الكريم الخطابي، أو سعد زغلول، أو تلك التي حاولت أن تؤسس لحلم النهضة العربية، مثل شبلي شميل، وفرح أنطون، والبستاني واليازجي، وغيرهم.
وقد تواصلت تلك الحملات بأشكال مختلفة طوال العقود التالية من القرن العشرين. وبينما اتسم أولئك الماركسيون بالخفّة، والقفز فوق الحدود الوطنية، حيث وجدوا في التاريخ الروسي وحده ثقافتهم الكفاحية، وقد جُعلت رواية "قصة إنسان حقيقي" لـ بوليفوي، مثالاً روائياً، بينما كان أندريه جيد ووليم فوكنر -في عرفهم- كتّاباً برجوازيين، وكان نجيب محفوظ يكتب عالم البرجوازية الصغيرة المرتبكة.
اتصف القوميون بالعزلة الثقافية التي جعلتهم لا يرون أبعد من الزمن الذي يقوده الضابط (أي ضابط) الذي قاد الانقلاب الأخير. فيما كان الإسلاميون يمزّقون كتاب طه حسين أو علي عبد الرازق، أو نجيب محفوظ.
والطريف أن اليساري الذي يتحرّش بالرمز الوطني، لم يقرأ ماركس. ومن بين مئات اليساريين الذين أعرفهم، لم أجد واحدا قرأ الماركسية جيداً، وفي الغالب كانوا يكتفون باقتناص ما كتب عن رأس المال، ولم يكن لدى القوميين مرجع فكري أو فلسفي عدا قادة الأحزاب.
وقد نبذ البعثيون، في ما بعد، مؤسس الحزب ميشيل عفلق، وليس بينهم من قرأ كتبه أو كتب قرينه زكي الأرسوزي. وقد قال عزيز العظمة في كتابه عن ابن تيمية إن هذا الفقيه، مثل كثيرين غيره، "يُذكر ولا يقرأ". سواء بين أنصاره، من الإسلاميين، أو خصومه.
وقد لا يكون الشاب الذي حاول اغتيال نجيب محفوظ ممثّلا لجيل، من حيث الاستعداد لتصفية المفكر جسدياً، غير أنه لا يبتعد كثيراً عن الشاب الآخر الذي يرى ضرورة إلغاء الأسماء من التاريخ، أو استبدالها بأسماء من تاريخ شعوب أخرى.
كلّنا يذكر أن الشاب قد اعترف أمام المحكمة أنه لم يقرأ نجيب محفوظ، وهو هنا فقط، دون أن ننسب الآخرين إلى نهجه القاتل، لا يختلف عن غيره ممن يعلنون أن الثقافة العربية ضحلة، ويرغبون في قتل أب لا يعترفون بوجوده أصلاً.
واللافت أن الأجيال المتتابعة، التي تعلّمت في العهود التي تلت استقلال سورية عن الاستعمار، قد تربّت، في معظم أفرادها، على ثقافة الكتاب المدرسي، في حين كانت الأنظمة التالية كافة قد تمكّنت من تدجين هذا الكتاب.
وصارت تلك الأجيال تعيش، الأمس واليوم، في ما يشبه القطيعة المعرفية، مع الماضي والحاضر. بعكس ما يشاع اليوم من أننا نعيش في الماضي وحده. وهو إحدى الوقائع المخزية، التي شاركت الأنظمة المستبدة، في صنعها، وأغمضت الأحزاب السياسية عيونها عنها، دون أن تسعى لترميم هذا الغياب، بثقافة وطنية بديلة، أو إنسانية موازية. ولهذا فقد تحوّل نهج "القتل" الرمزي لدى الأجيال السابقة، إلى "ولع" بالقتل والتصفية الجسدية لدى الأجيال التالية في مشهد أيامنا الغريبة.