يَشُمّ طفله ويغفو

27 سبتمبر 2014
"يؤمن أن هذا واجبه كأب" (جيوزيبي كاكاس/فرانس برس)
+ الخط -
عَرَف أن ابنه الجندي علي حمادي الخراط قد قضى في انفجار عبوة ناسفة في عرسال استهدفت شاحنة عسكرية تابعة للجيش أثناء مرورها داخل البلدة. لحظة دخول ابنه السلك العسكري، كان يُدرك أن حادثة كهذه قد تقع في أي وقت. عرف ولم يقتنع. الجميع لكن ليس ابنه. ليس أنانياً أو "مستهتراً" بأرواح الآخرين. هو أب فقط.

لم يحتمل الخبر. لماذا يموت هذا الشاب الوسيم ضمن "تصفية حسابات" لا علاقة له بها؟ بعد ساعات عصيبة أمضاها في المستشفى جراء تدهور حالته الصحية، فارقَ الحياة قبل ساعة من موعد تشييع ابنه. فشُيّعا معاً. الأب وابنه. اطمأنّ الآن. علي لن يكون وحيداً. سيؤنسه تحت التراب وقد يلعبان "الطاولة" كما اعتادا. من يدري!

*****

حَدَثَ الانفصال. هربت بالطفل الذي لم يكن ليحرمها منه. لكنها أرادت تعذيبه. لم يكن قوياً هذه المرّة. انهارَ. اختلطت حواسُه حتى أضاعها. رقد أياماً في المستشفى. ارتفعت حرارة جسمه طويلاً. عجز الأطباء عن التشخيص. لم يكن السبب فيروس أو بكتيريا. كانت الأبوة. والأطباء غالباً لا يؤمنون بالعواطف.

*****

قضى أكثر من نصف حياته في الغربة. ربما الثلثين. هو قادر على الصمود أكثر. يؤمن أن هذا واجبه كأب. لا يريد منهم شيئاً. فقط أن يكون قد ساهم بتحقيق جزء من طموحاتهم. حتى ولو حُرِم كل شيء.

*****

كان طفله بين ذراعيه حين انقطع الأوكسيجين تماماً عنه. صار يصرخ باسمه. قَرَص خديه من دون جدوى. رأسه الصغير اتكأ على صدره وأغمض عينيه. صرخ للطبيب الذي أدخله إلى غرفة العناية الفائقة. وبكى.

استسلمَ هؤلاء لإحساس الأبوة. رفضوا ارتداء قناع الذكورية العالمية وتعليب مشاعرهم وإخمادها. رفضوا الهرب من مسؤولياتهم وتحميلها للأم وحدها. ليس بالضرورة أن تؤدي تجربتا الحمل والرضاعة إلى توطيد علاقة الأم بطفلها. الألم قد يكون عاملاً سلبياً الأب مُعفى منه. في المقابل، تجد الأم نفسها وكأنها في سباق للاستجابة لهالة "الأمومة"، ذلك الإحساس الضخم التي زادت المجتمعات من ضخامته. تريد أن تُثبت أنها تستحقه. حمّلتها المجتمعات الكثير، ربما لأنها مبرمجة مجتمعياً لتحمّل الضغوط أكثر من الرجل. ولأنّ الطبيعة خصّتها بأشياء دونه. لكن لا يمكن تجزئة الأمومة والأبوة. وسنظلّ نحاول إصلاح أخطاء أولئك الذين غذّوا الذكورية على حساب الطفل، وربطوا الأبوة بجلب المال والطعام.

ذات يوم، قال ريشيليو: لا يغفو قلب الأب إلا بعد أن تغفو جميع القلوب. وكل يوم، آباء كثيرون لا يغفون قبل أن يُخزّنوا رائحة أطفالهم في أنوفهم.
المساهمون