يوم من عمري

05 يناير 2016
+ الخط -

معه قرّرت أن أبدأ أول أيام العام الجديد بأن نقضي سوياً عدة ساعات، بلا قيودٍ ولا تفكيرٍ ولا نظام، فألغينا كل المواعيد، وأغلقنا هاتفينا النقالين، واستأجر هو سيارة من محل لتأجير السيارات، ولا أدري السبب في انتشار محلات تأجير السيارات الفاخرة في غزة، هذه الفترة بالذات، حيث تؤجر لساعات بمبالغ متفاوتة. هل يهربون من واقعٍ مزرٍ يعيشونه، بالانطلاق بسيارة فارهة في يوم ما من العمر؟

رفض تماماً فكرة أن نخرج سوياً في سيارة عامة، وهو يعرف فضول الركاب، خصوصاً أن الفارق بيننا واضح، فأنا رزينة  إلى درجة ملفتة، وهو يبدو مستهتراً ومرحاً إلى درجة ملفتة، وقد أصر أيضاً على خروجنا في سيارة وحيديْن، لكي يسمح لي أن أترك العنان لأنوثتي وطفولتي، فيما صرح لي أنه يريد أن يتحدث معي عن المستقبل.

عند الحاجز الأخير، ونحن في طريقنا إلى ساحل البحر، هرباً من المدينة التي تقتل الأحلام كما أسميها، قابلنا شرطي المرور المنهك، والذي لم يتلق راتباً منذ شهور، لكنه يواصل عمله، فنظرة الإشفاق على المارّة وقادة المركبات لم تفتني، فلم يكن يفعل شيئاً سوى التلويح بيديه، ولم يوقف مركبةً ليحرّر لصاحبها مخالفة، على الرغم من أن الجميع كان يسير في الاتجاه المخالف.

على جانب الطريق، رأيت طفولتي تسير خلف تلميذات صغيراتٍ، خرجن من المدرسة، بعد تقديمهن الامتحانات النصفية لفصل دراسيٍّ، يلملم أوراقه. كانت إحداهن، على الرغم من برودة الجو، تلعق أطراف قمع من البوظة، تمسكه بإحكام، فيما تنظر الأخريات لها، ويتظاهرن بأنهن غير مباليات. تذكّرت أنني كنت أعطي الحلوى وجزءاً من مصروفي لزميلتي الفقيرة، لأني كنت أراها قادرة على التصدي للزميلات اللواتي يضايقنني، وحين أصبحت، في المرحلة الإعدادية، كرهت مريول "أونروا" المخطط بالأزرق والأبيض، والذي يبهت لونه مع الأيام، خصوصاً أن معظم الطالبات كن يلبسن المريول نفسه عامين متتالين، وقد قدمت طلباً خطياً لإدارة المدرسة بتغيير لونه إلى الكحلي الغامق، فمزقته الناظرة سريعاً، وربتت على وجنتي،  وقد تجرأت بتقديم الطلب، بعدما حدث مع زميلةٍ، حين فاجأها حيضها الأول في الفصل، وتبقع المريول بقطرة دم، جعلتها تترك المدرسة إلى الأبد، لأن أستاذ اللغة العربية رآها، وقد كانت أكثرنا خجلاً وانطواءً، ولم تحتمل العودة إلى الصف في اليوم الثاني، ومواجهة عيني المعلم خصوصاً.

داخل السيارة، غرزت دبابيس الحجاب بقعر حقيبتي، وأبقيته ملتفاً بلا إحكام حول شعري، حتى وصلنا إلى الشاطئ، وترجلنا من السيارة، فقلت له إنني أريد أن أحقق أمنيةً، طالما تمنيتها في غزة، وهي أن يداعب هواء بحرها خصلات شعري، ويعابثها ويتخللها، ويفرقها عن بعضها، ويفكك طبقة الكريم التي أمسدها فوقها، لتلتصق الخصلات مثل كتلة واحدة. حدث ذلك سريعاً وحسبما أشتهي، بعد أن جذبت الحجاب من فوق شعري، فضحك ضحكة بزاوية فمه في غير رضا.

على الشاطئ، اتخذنا مقعدين متجاورين، وكان الشاطئ خاوياً في هذا الوقت من العام، وراقني خلوّه من المصطافين، لأن البحر كان يبدو كمن يتنفس الصعداء، وهو يريح موجه على الشاطئ بهدوء، من دون أن يرتطم بالأجسام المثقلة بالدهون والهموم، حدثته عن ذكريات كثيرة، لكنه طلب مني أن نتحدث عن المستقبل.

قلت له باختصار إن المستقبل في غزة يبدو غامضاً، فوضع كفه على فمي ليسكتني، لكي لا أسترسل في السياسة، فطبعت عليها قبلة خاطفة، وأسكتني مرة أخرى، حين جاء النادل، فأعدت الحجاب بحركةٍ سريعةٍ إلى مكانه، وألقى النادل نظرة متشككة علينا، وربما حاول أن يضع في رأسه تصوراً للعلاقة التي تربطنا، فهمست له: لو كان معنا طفل، أو عدة أطفال يتقافزون حولنا، لما لمحنا هذه النظرات المتسائلة.

مضت ساعات ست على حديثنا المتفرق، ومداعبة البحر الممتعة لشعري، ثم فجأة نهض، وأمسك بيدي، ليساعدني في السير نحو السيارة لنعود. ابني كان مصمماً أن يذكّرني أنه فعلاً "يوم من عمري".

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.