كانت حرب صيف 2006 حربهم الأولى، لم أستطع أن أحضنهم أو أن أواسيهم وأخفّف من هلعهم، لأنّ الأقدار شاءت أن تبعدني عنهم في تلك الأوقات العصيبة. كانت سورية في ذلك الوقت الملاذ الأكثر أمناً والأقرب، بما أنّنا من سكّان مدينة زحلة في البقاع، حيث لا تفصلنا عن مدينة الزبداني سوى نحو ساعة. الزبداني تُعتبر من أقدم وأشهر المصايف العربية التي سكنها الآراميون، وأطلقوا عليها اسمها الذي يعود أصله إلى اللغة الآرامية.
لم يكن القرار سهلاً، خصوصاً أنّ وسائل الإعلام نشرت أخباراً عن سقوط قنابل على منطقة المصنع والحدود الفاصلة بين لبنان وسورية، ومصرع العديد من المسافرين بين البلدين. تلك الأخبار حوّلت مهمّة العبور إلى سورية، التي لا تتعدّى السّاعة إلى كابوس فتك بأعصابي وأخافني أكثر من الحرب نفسها. استمرّ الكابوس حتى وصل أبنائي إلى الجهة الأخرى، حيث يكتظ الشوارع بالناس وتعمّ مظاهر السياحة والبهجة المنطقة.
ساعة واحدة كانت كفيلة بالانتقال من بلد الحرب والدمار إلى أرض آمنة، استقطبت كمّاً هائلاً من السيّاح، في وقت تمطر فيه سماء لبنان القنابل فتستهدف البشر والحجر. وصلتُ إلى مطار سورية، بغية مرافقة أبنائي والعودة بهم على وجه السرعة إلى حيث نقيم، بعد أن لفظنا الوطن من جنباته. توقّعت أن تتأثّر مناطق سورية بالمأساة التي يرزح تحتها الشعب اللبناني الشقيق، لكنني فوجئت بعالم من البهجة والمرح والسّهر حتى بزوغ الفجر، وكأنّ لا حرب دائرة في البلد الشقيق.
انتزعت الزبداني وبلودان من داخلي الحزن والخوف وكأنّ يداً خفيّة تسلّلت إلى أعماقي واستبدلتهما بالطمأنينة. قرّرت البقاء لمدّة أطول، وشعرت أنّني في بقعة تبعد مئات الأميال عن وطني. أردت الاستمتاع وتعويض أبنائي عن الرّعب الذي قدّمته لهما إجازة الصيف في لبنان، تجوّلت في شوارع بلودان المطلّة على سهل الزبداني لساعات.
في اليوم التالي قصدت صالون تصفيف الشعر، جلست هناك أنتظر دوري، وفجأةً، انهالت عليّ صاحبة المحل بكمّ من الإهانات والتجريح بحق الشعب اللبناني بعد أن تنبّهت للهجتي. لم تتوانَ عن الاعتزاز بكرم السوريين الذين فتحوا بلدهم للّبنانيين الذين طالبوهم بمغادرة أراضيهم وطردوهم. جلستُ صامتة أُنصت إلى حوار استفّزني كثيراً، وكي أمنع نفسي من التفوّه بكلمة عدت بذاكرتي إلى أحاديث مماثلة ينتقد فيها اللبناني جاره السوري.
لن أكذب وأقول إنّ كلامها لم يجرحني يومها، لكنني تقبّلته واحترمت وجهة نظرها وحريتها برأيها الشخصيّ، فكلٌ يرى الأمور من المنظار الذي يتماشى وقضيته، وكلّ منّا يغوص في البئر ذاتها وينعت الآخر بالعنصرية والطائفية والمذهبية.
على الرّغم من الطيبة التي تحلّى بها غالبية السوريين آنذاك، شعرت بالغربة والاضطهاد جرّاء انتقاد أو رفض امرأة واحدة وجودي على أرض بلادها.رحلت وأنا أتساءل: "هل يمكن لفرد واحد أن يشوّه صورة بلد أو شعب بكامله، أم أنّ بعض الأفراد يتجرّأون على قول ما تخفيه الأغلبية؟".