يوميّات مواطن غير صالح
قمتُ اليوم بواجبي في مجال الفساد، فقد صار هذا الفعلُ واجباً وطنيّاً، وفي ذلك فلْيتنافس المتنافسون. فالحكومة تسرق المواطن، والمواطن يسرق الحكومة. ومع ذلك فجميعنا يذمّ الفساد والمفسدين. فيشتكي الناس في المقاهي، وفي الأسواق وفي الملاعب...، ويتذمّر الوزراء في الإذاعة والتلفزيون. وأسمع كثيرًا من تلك الأحاديث في سيّارتي، التي أقلّتني يومها، إلى سوق "المنصف باي" لشراء ثلاّجة جديدة، فالثلاجات هناك أرخص من أيّ مكان آخر، بفضل نعمة التهريب.
في الطريق، فتحت المذياع، فاستمعت إلى أحدهم يتكلّم عن الفساد، وعن أطنان السلع التي تدخل الموانئ يوميّاً وتخرج منها بسلام من دون أن يدفع أصحابُها المتنفّذون الرسوم التي عليهم، وهكذا تتضرّر خزينة الدولة.
كان المتكلّم هو شوقي الطبيب، رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وهو رجل طيّب، و"حنيّن"، وقلبه على الدولة، فقد صارحنا بكلّ التفاصيل، حتّى أنّه قال لقناة "الجزيرة": "ليس هناك أيّ قطاع أو مؤسّسة أو جهة مهنيّة لم يمسّها الفساد، وهناك قضاة فاسدون ومحامون فاسدون وإعلاميّون وساسة في الحكم فاسدون، فالفساد طاول جميع أوجه الحياة العامّة في تونس"، وهكذا، اطمأنّ قلبي، بعد أن استمعتُ إليه بانتباه، وواصلتُ السير في اتجاه السوق، فالمؤكّد أنّ الفساد مستمرّ إلى أجل غير معلوم، وأنّ الثلاّجة التي أبحث عنها موجودة، وبأرخص الأثمان.
على مقربةٍ من السوق، ركنتُ السيّارة في موقف تابع للبلديّة مجهّز بموزع آليّ يسلّمك تذكرة بدينار مقابل الوقوف لوقت لا يتجاوز الساعة، وعندما هممت بمعالجة الأزرار، داهمني رجل غريب الأطوار، فسلّمني التذكرة وطلب الدينار. فساومتُه برفق حتّى أقنعتُه بأن يتسلّم نصف المبلغ في إطار التوزيع العادل للثروات.
في تقدير الحكومة، يعتبر ذلك الصنيع فعلا مُوحشاً!!، فقد اختار ذلك الرجل أن يستولي على جزء من أملاك الدولة. وقد شاركته الجريمة عن قناعة، لم يكن ذلك الرجل مخيفاً أو يحمل عصاً غليظةً مثلما نشاهد في مواقف السيّارات العشوائيّة، لذلك سلّمتُه الضريبة التي كانت ستذهب لخزينة الدولة، حمايةً لها من فساد الكبار.
قدّرتُ أنّه فقير، وعاطل عن العمل، فأعطيتُه ما عجزت الدولة عن إيصاله إليه.. أعلم أنّ الدولة تفكّر في شعبها المسكين، لذلك ساعدتُها، اختصرتُ الطريق، وأعفيتُها من التخطيط والتنسيق لتوزيع جزء من ضرائبها على الفقراء والمعوزين.
قد لا أكون بذلك العمل مواطناً صالحاً، ولكنْ ما العمل في دولة غير صالحة!