عن المعادلة المقلوبة في الأزمة الخليجيّة

10 ديسمبر 2017
+ الخط -
"تجري في هذه المرحلة محاولة منهجية لتصفية أيّ أمل بالتغيير مستقبلا باستخدام قوّات المرتزقة الإعلامية والجيوش الإلكترونية المجوقلة التي تشوّه كلّ قيمة معنويّة سامية وكلّ فكر ورمز وشخص يحظى بمصداقيّة" / د. عزمي بشارة.


كان منطلق الأزمة الخليجيّة مفتعلاً، باختراق وكالة الأنباء القطريّة ونشر أخبار زائفة، اتُّخِذت على إثرها خطواتٌ عقابيّة ضدّ الدوحة. وظلّ التصعيد مستمرّا على منوال غريب حيث الأخبارُ هي التي تصنع الأحداثَ وليس العكس. والمعلوم الآن أنّ تلك المعادلة المقلوبة شوّهت أصول السياسة وقواعدها بإعلام متحامل لا يحترم مواثيق شرف المهنة وأخلاقيّاتها. فنشرُ الإدعاءات وتضخيمُها من جهة وتكذيبُها والردُّ عليها من جهة أخرى، أدخل المنطقة في تجاذب إعلاميّ من شأنه، إن استمرّ طويلا، أن يفكّك النسيج الخليجيّ المتجانس على جميع الأصعدة. ففي تلك الناحية من الخريطة العربيّة، زالت الحدود تقريبا، وبلغ الأشقّاء مراحل متقدّمة من التكامل سياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا، حتّى توحّدت مصالحهم ومخاوفهم وسرّاؤهم وضرّاؤهم على نحو لا يسمح بالتآمر عليها أو إعادة فرزها وتقسيمها.

ومن مظاهر ذلك الفرز والتقسيم، اتهام قطر عبر تقارير إعلاميّة (تذاع على مدار الساعة) بمساندة الإرهاب وتمويله، وقد شمل الاتهامُ جمعيّات خيريّة تشرف على أنشطتها منظّمة الأمم المتحدة التي أشادت بجهودها الإغاثيّة في المناطق المنكوبة بالصراعات والحروب..


ولا تبدو وسائل الإعلام واعية بخطورة النتائج التي ستترتّب على نشر الأباطيل والفبركات، فتوجيه الاتهام لدولة عربيّة شقيقة قابل للارتداد على أصحابه، لأنّه سيؤدّي بالضرورة إلى التراشق بتهم من جنسها، وعندها يتحوّل الإعلام إلى شاهد إثبات، وقوّة إقناع لدى الرأي العام العالميّ الذي يراقب كلّ ما يُقال ويستطيع تأويل حصيلة الادّعاءات المنشورة باعتبارها اعترافاً صريحاً من داخل البيت الخليجيّ الذي يشهد تصدّعاً غير مسبوق، ظهرت ملامحه مع فشل القمّة الأخيرة في الكويت... فما يروّجه الإعلام الخليجيّ منذ فترة، يمكن أن يتحوّل بفعل التراكم، إلى دليل إدانة يضع كامل المنطقة في قفص الاتهام، ويعرّضها بالتالي إلى تهديدات وأطماع كانت في غنى عنها، وقد ظهرت بعض مؤشّراتها مبكّرا بشراء المزيد من السلاح وتحريك الجيوش في محاولة لتغيير الموازين عبر صفقات لا تخلو من ابتزاز.

وعلى العموم، أخطأ بعض الإعلاميّين عندما اعتقدوا أن ما يفعلونه سيغيّر نظرة العالم إلى قطر ويضرّ بمصالحها، فما حدث إنّما غيّر نظرة العالم إلى بلدان مجلس التعاون الخليجيّ، فلم تعد تمثّل نموذجا مثاليّا على مستوى العمل المشترك الضامن لرفاه شعوبها.

ولعلّ العامل المطمئن أنّ شعوب المنطقة لم تسقط في ذلك الفخّ، فأثبتت تمسّكها بقيمها التضامنيّة المشتركة، وتعاطفت بوضوح مع الشعب القطريّ وقيادته، رافضة خطاب الفرقة والتحريض على الكراهيّة والانتقام.. ويجوز القول إنّ الجماهير تظاهرت سلميّا على مواقع التواصل الاجتماعي فغرّدت بكل الأساليب للتنديد بالحصار المفروض على الشعب القطريّ، وحوّلت جملة الأراجيف الإعلاميّة إلى مسخرة تسفّه مضامينها والذين يعملون على ترويجها في قنوات تلفزيونيّة فقدت مصداقيّتها منذ أن تحوّلت إلى ماكينة لنشر الأكاذيب وزعزعة أسس الاستقرار في المنطقة..

وليس مستبعداً أن تكون الرسالة قد وصلت إلى الملوك والأمراء ليضعوا في الاعتبار أنّ وعي الشعوب لم يعد بالهشاشة التي تجعلها تتأثّر بما يذاع في وسائل الإعلام التقليديّة، فقد أصبح محصّناً، وقادراً على تبيّن المضامين المضلّلة بحكم التنبيه إليها في مواقع التواصل الاجتماعيّ التي صنعت إعلامها البديل ليكرّس حريّة الرأي والتعبير، ويساهم بالتالي في توعية العامّة والخاصّة بخطورة الحرب الإعلاميّة التي سقطت في فخٍّ خطيرٍ يقوم على التراشق بتهمة الإرهاب، متجاهلا ما قد يجرّه ذلك الترويج والتأجيج من خطرٍ على أمن كافّة شعوب المنطقة واستقرارها وسلامها.

يقول دومينيك دوفيلبان وزير خارجيّة فرنسا في عهد جاك شيراك: "الإرهاب ينصب لنا فخّا، إذ يريد أن يدفعنا إلى الخطيئة، والخطيئة هي الحرب".
42AEC1D7-8F5A-4B18-8A1C-9045C7C42C2B
عبد الرزاق قيراط

كاتب وباحث تونسي من مواليد 1965. من مؤلفاته كتاب "قالت لي الثورة" سنة 2011. وكتاب "أيامات الترويكا" سنة 2014. له مقالات متنوعة بصحف ومواقع عربية عديدة.