يزداد الانشقاق بين لبنانيين وبلدهم. الانهيار حاصل. إعلان موت البلد مؤجّل، لأنّ الجماعة الحاكمة ترفض تحمّل أدنى مسؤولية لها عن الخراب. الثقافة مترهّلة. الفنون معطّلة. الإعلام مُصاب بعطب الخضوع للجماعة الحاكمة، ولمصالحه أيضاً. السينما تكافح لتقول بعض ألمٍ أو توثِّق بعض غضبٍ أو تُسجِّل بعض موقفٍ. لبنانيون كثيرون يتحمّلون جزءاً من مسؤولية الخراب، فصمتهم الطويل أحد أسباب الانهيار الكبير.
سينمائيون عديدون ينعزلون من دون مسافة كبيرة مع وقائع وتطوّرات خطرة. يستفيدون من "فيسبوك" ليُواكبوا، سخرية أو نقداً أو تحليلاً، مساراً متأزّماً، يتفنّن (المسار) في ابتكار أشكال تأزّمه، لأنّ الجماعة الحاكمة تبرع في صُنع معجزات القهر والتحطيم والكسر والإفلاس. سينمائيون يذهبون، بين حينٍ وآخر، إلى ماضٍ ينبض باشتغالات وتفاصيل، فينشرون صُوَر صانعي سينما مراحل قديمة، أو معلومة عن ممثل أو مخرج أو نجمة. يُترجمون أقوالاً لأجانب، أو ينقلون ما يبوح به عربٌ عن فيلمٍ أو دورٍ أو تجربةٍ. فالذهاب إلى الماضي استراحةٌ مؤقّتة من قهر الراهن، أو تغذيةٌ لمواجهة قهر الراهن أيضاً.
آخرون يلجأون إلى كاميرا لتصويرٍ يريدونه للمقبل من الأيام. يختبرون العزلة، فيُنجزون أشرطةً تختزل حالة أو انفعالاً أو تأمّلاً. هؤلاء يخرجون على النظام الفاسد والناهب والقامع، بل يواجهون نظاماً كهذا بأساليب تتلاءم وشغفهم بالصورة، وبما تملكه من أدوات وعي ومعرفة وجماليات، وبما يعتمل فيهم من نبض حياة وتنبّه وكشفٍ وتفكيك. بعضٌ قليلٌ منهم يُمعن في انفصالٍ قاتل عن الواقع. يلجأ إلى رواية رسمية، فيُحمِّل الفقراء مسؤولية مصائبهم، ويدعو الناس إلى زرع شرفاتهم وأسطح أبنيتهم بالخضار والفواكه، كحلٍّ لأزمةٍ يُتهمون بمسؤوليتهم عنها. بعضٌ قليلٌ يُروِّج، عن قصدٍ أو عن جهلٍ وفي الحالتين المُصيبة كبيرة، لنصّ النظام الفاسد والناهب والقامع، بدلاً من تحدّي النظام، وكشف عوراته، وفضح ارتكاباته العنفية ضد الناس والمجتمع والبلد. بعضٌ قليلٌ يُنظِّر في معنى الاختلاف بين المنتج والمخرج في شخصٍ واحد، فيعتبر الأول صاحب مهنة يتقاضى أموالاً بفضلها، بصرف النظر عن التزامٍ أو قناعة أو وعي أو رغبة، ويرى في الثاني مساحة واسعة لتعبيرٍ عن رأي يُناقض، غالباً، ما يصنعه المنتج من أفلامٍ ترويجية لهذا الرأي المناقض.
سينمائيون قليلون يختارون الكتابة لقولٍ مباشر، فينضمّون إلى كتّاب قلائل للغاية يعرفون أنّ للسينما حضوراً قوياً في واقع آنيّ. يستعينون جميعهم بالسينما فهي مرجع يُستفاد منه في قراءة لحظة لبنانية خانقة. يختارون مَشاهد أو لقطات أو شخصيات أو أقوالٍ لشخصياتٍ، يرون فيها ما يُلائم اللحظة تماماً. يُعلن ملحم خلف، نقيب المحامين في بيروت، بياناً غير متوافق مع آمال "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019)، قبل تقوقعها في عزلة "كورونا" وبطش السلطة، المُساهمة ـ بشكلٍ أو بآخر ـ في انتخابه، فيستعين كتّاب وسينمائيون بشخصيات سينمائية تقول ما يعكس شيئاً من الآنيّ. تُصدر وزارات قرارات، فتمنح السينما فيضاً من تعابير ومواقف مشابهة للفساد اللبناني اليوم، وللنهب اللبناني اليوم، وللقمع اللبناني اليوم. ينتحر علي الهقّ (3 يوليو/ تموز 2020) في شارع الحمرا، معلناً أنّه "مش كافر"، وأنّ سجله العدلي يؤكّد أنْ "لا حُكم عليه"، فينصرف كتّابٌ وسينمائيون قليلون للغاية إلى رمزية موقع الانتحار وعلاقته (الموقع) ببيروت والسينما والذاكرة، من دون أنْ يتناسوا وجع علي الهقّ وانكساره المؤلم أمام فداحة الخراب اللبناني، ويستعيدون أغنية "أنا مش كافر" لزياد الرحباني، لتذكيرٍ يطاول مضمون أغنية مُنجزة عام 1985، له (المضمون) في راهنِ بيروت حضورٌ طاغٍ.
تُرى، أتستطيع السينما اللبنانية، لاحقاً، أنْ تستوعب الحاصل يومياً منذ تفشّي "كورونا" وانكشاف حجم نهب الجماعة الحاكمة، فتُرتجم استيعابها أفلاماً وأشرطة تجريبية وصُوراً مختلفة عنه؟