يوسف شاهين في "كارلوفي فاري الـ54": عن معنى التكريم

01 يوليو 2019
يوسف شاهين في "باب الحديد": أسئلة وتأمّلات (فيسبوك)
+ الخط -
تكريم يوسف شاهين (1926 ـ 2008)، في الدورة الـ54 (28 يونيو/ حزيران ـ 6 يوليو/ تموز 2019) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي"، يُثير حيرة. للمخرج المصري مكانة أساسية في صناعة الفيلم العربي، لكن، لا مناسبة آنية أو حديثة أو راهنة للتكريم. مع هذا، هل يحتاج تكريم يوسف شاهين تحديدًا إلى سببٍ أو مناسبة؟ البديهيّ يفترض هذا. مهرجانات دولية تكرِّم سينمائيًا لسببٍ ما. رحيل شاهين حاصلٌ منذ 11 عامًا. مولود هو قبل 93 عامًا. حياته ممتدة على 82 عامًا. فيلمه الروائي الطويل الأول، "بابا أمين"، مُنجز قبل 69 عامًا. فيلمه الأخير، "هي فوضى"، منجز عام 2007، أي قبل 12 عامًا. اختيار فيلم ما له لتكريمه بمناسبة ما، لن يكون سببًا منطقيًا للتكريم. غير أنّ "ربع قرن" أو "نصف قرن" أو "75 عامًا"، أو "يوبيلاً ذهبيّاً" أسباب أصدق وأكثر منطقية، وهذه غير متوفرة في تكريم شاهين في كارلوفي فاري. أو ربما إنجاز عملية ترميم متكاملة لبعض الأفلام، كما هو حاصلٌ في المهرجان التشيكي.

تساؤلات لن تُلغي مكانة يوسف شاهين في المشهد السينمائي، عربيًا ودوليًا، ولن تنتقص من القيم المختلفة للمهرجان. مكانة شاهين لن تحول دون تنبِّه إلى اشتغالاته وهواجسه وتحدياته ومثابراته ونزقه ومواجهاته، أو إلى رفضٍ ينطق به، أو موافقة ما، وفي الحالتين يمتلك مصداقية واضحة. ارتباكاته (بمعنى تساؤلاته وشكوكه وبحثه الدائم عن أجوبة) في شؤونٍ جمّة، في الحياة والقدر والمصائر والسياسة والأخلاق والعلاقات والتفاصيل والهوامش والأفكار والثقافات والتبدّلات، منعكسةٌ، بشكلٍ أو بآخر، في أفلامٍ له، بعضها ثابتٌ في موقعه، جماليًا ودراميًا وإنسانيًا وتأمّليًا. هواجسه، في الفن وصناعة السينما ومعنى الصورة ومدى قدرتها على توثيقٍ وتأثيرٍ وتأريخٍ وجماليات، متمثّلة في أفلامٍ له، بعضها (وإنْ يكن أقلّ من غيره) مرآة، صادقة وشفّافة وحيوية وبهيّة، لارتباكاته وهواجسه.

لا سبب واضحًا للتكريم، في مقابل تفاصيل قابلة لأن تكون سببًا لتكريمه. هذا تناقض. هذه حيرة. لكنّ السؤال الأهمّ كامن في هدف التكريم، في ظلّ تبدّلات أساسية في صناعة السينما العربية، وفي ظلّ ظهور دائم ومستمر، منذ أعوام عديدة، لمخرجين عرب، يُنجزون تجديدًا، أو محاولة تجديد على الأقل، في المواضيع وآليات معاينتها ومعالجتها، وفي الاشتغال الفني والتقني، وفي الرؤية والتأمل والنقاش والموقف والمواجهة. 

بعيدًا عن كلّ تحليلٍ، ربما لن يليق برغبة التكريم، يُعرض 11 فيلمًا روائيًا طويلاً لشاهين في الدورة الجديدة لـ"مهرجان كارلوفي فاري". أحدها، "بابا أمين"، أول فيلم يُنجزه عام 1950. بعضها أساسيّ، كـ"باب الحديد" (1958)، و"عودة الابن الضال" (1976)، وقبلهما "صراع في الوادي" (1954). هناك ما يعكس شيئًا من اختبارٍ مختلف، أو ارتباكات صورة وموضوع ومعالجة، والارتباكات لن تكون دائمًا سلبيّة: "إنتَ حبيبي" (1957)، و"وداعًا حبّك" (1957)، و"الناصر صلاح الدين" (1963)، وقبلها كلّها "شيطان الصحراء" (1954). السيرة، أو شيءٌ منها، حاضرٌ أيضًا: "إسكندرية... ليه؟" (1978). أخيرًا، هناك "اليوم السادس" (1986)، و"فجر يوم جديد" (1964).

الخيارات تعكس تنبّهًا إلى أساليب واختبارات يخوضها شاهين في مساره الحياتي واشتغالاته السينمائية. إحدى ميزاته كامنةٌ في قدرته الدائمة على طرح الأسئلة. لعلّه يُجيب أحيانًا في فيلم أو آخر، لكن الإجابات غير ثابتة وغير دائمة وغير مؤكّدة وغير نهائية. الميزة هذه سمة تمكّنه من طرح الأسئلة مرارًا، ومن تحريض مهتمّين ومتابعين على مناقشتها، ومن حثّه هو على الاستمرار في الاشتغال حتى اللحظات الأخيرة من حياته. صحيحٌ أنّ الخيارات كلّها في "كارلوفي فاري" منضوية في "المصريّ" البحت، باستثناء "الناصر صلاح الدين"، مع أنه يصبّ في شيء مصريّ (صلاح الدين الأيوبي ـ جمال عبد الناصر). تجربته اللبنانية مثلاً مُغيّبة، رغم تمثّلها بفيلم واحد ("بيّاع الخواتم"، 1965). لن يكون الفيلم أهمّ من غيره، لكنه تجربة متنوّعة الأشكال، فهو، بصريًا، ينتمي إلى السينما الغنائية، ومرتكز على تعاون مع الأخوين عاصي ومنصور الرحباني وفيروز. كما أنّه مُنجز في بيروت، في مرحلة غليانها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، علمًا أنّ بيروت حينها "شاهدة" على صدام فعلي بين سينمائيين مصريين عديدين ونظام ناصريّ حاكم، يؤدّي بهؤلاء إلى اختيار بيروت ملاذًا، ولو مؤقّتًا. شاهين ناصريّ، لكن ناصريته مضطربة بسبب تجاوزات نظام تُثير (التجاوزات) مصائب، تدفعه إلى الـ"هجرة" إلى بيروت. هيامه بفيروز دافع له إلى تحقيق فيلم معها. هذا مهمّ في سيرته.

نقاشه الناصرية حاضرٌ في أفلام أخرى غير مختارة في "مهرجان كارلوفي فاري". مثلٌ أساسي: "العصفور" (1972)، مع أنّ لـ"عودة الابن الضال" مساهمة ما في النقاش هذا. سجاله مع أحوال بلده وتاريخها وصراعاتها مغيّب هو أيضًا، رغم ظهوره في أفلام مختارة وإنْ بشكلٍ أقلّ: "الأرض" (1969) و"الاختيار" (1970) نموذجان أساسيان ومهمّان للغاية، لكنهما غير معروضين في كارلوفي فاري. له أيضًا تجربة أخرى غير مصرية (جزائرية تحديدًا)، لكنها غائبة في التكريم التشيكي: "جميلة بو حيرد" (1958). امرأة آتية من زمنِ تبدّلٍ وتغيير، ومن عالم عربي يعيش محنًا وانقلابات واضطرابات. "الهواجس النضالية" لشاهين أساسية في اشتغالاته. مواجهة الاستعمار والاحتلال الأجنبي حاضران في فيلمه هذا.

رغم هذا، تعكس الأفلام المختارة في "مهرجان كارلوفي فاري" شيئًا كثيرًا من هواجس يوسف شاهين، ومن أسئلته واشتغالاته.
المساهمون