يوسف المباركي.. الدانوب لم يعد أزرق

18 نوفمبر 2015
(حميد خزعل، أكريليك على قماش، 120 × 120 سم)
+ الخط -

مع روايته الأولى، "ليلة الدانوب الأزرق"، الصادرة حديثاً عن "المطبعة العصرية"، ينتقل الكاتب الكويتي يوسف المباركي (1967) من عالم كتابة المقالة الصحافية إلى عالم مختلف؛ إلى عالم الفن، وفي أكثر أصنافه رواجاً هذه الأيام، أي الرواية، وبأحد أكثر أساليبها حداثة؛ أي استخدام تقنية تيار الوعي.

تقوم الرواية على مزيج من مناجاة ذاتية وحوار مع آخر يتولّاهما ساردٌ، ويتردّد الاثنان بين طبقتين من طبقات الوعي؛ الماضي والحاضر، وهما يستمعان إلى فرقة موسيقية في مكان ما، تبرز بين معزوفاتها وتلحّ قطعة "الدانوب الأزرق" الشهيرة، للموسيقي النمساوي يوهان شتراوس.

تتضّح مسارات تيار الوعي شيئاً فشيئاً، فتظهر معها، من سطرٍ إلى آخر، ملامح حكاية شابة غائبة يروي رجلٌ حاضرٌ ومتردّدٌ علاقته بها كأنه يتحدث عن علاقة بين شبحين: "يجهل أحدهما الآخر، يتردّدان، تفصل بينهما ستارة مسرح، يقول عنّا هذا أو تقول تلك، وقد ترتفع الستارة يوماً فنجد نفسينا وجهاً لوجه، ولكن الستارة لا ترتفع، والمشاهدون وحدهم من يعرف وينتظر..". ثم يضيف السارد: ".. وأنا أشدّ قلقاً من موجة بين خيال وخيال، ولا شاطئ هناك ولا أحد".

السارد هنا هو أيضاً ساكن ضاحية ما من ضواحي الكويت، إلا أنه، شأنه في ذلك شأن الممعن في العمر طويلاً، يستعرض مشاهد وحوادث متنوعة، من ماضيه وماضي تلك التي يستنقذها كأنما من العدم.

فيتساءل مرة بعد أخرى: هل كان النهر بيني وبينها رمادياً أم كان أزرق صافياً؟ هنا ثمة امرأة تومئ وتشير إليه، ولكنها شابة متردّدة أيضاً بين عالمين، عالم الشتاء في الكويت حيث تأتي من لندن، ثم عالم الصيف حين تغادر إلى لندن. ولا يعرف السرّ؛ سرّ مرضها الذي يجعلها تهاجر كل صيف طلباً لشفاء ميؤوس منه، إلا متأخرّاً.

في تصدير قصيدة "إليوت"، يقول المتحدّث بلسان دانتي، وهو يغرق في نيران الجحيم "لو لم أعرف أن لا أحد سيرجع إلى عالم الأحياء لما قلت شيئاً".

 على العكس من هذا، يبدو السارد في حكاية "ليلة الدانوب الأزرق" ليس راغباً بالبوح بكل شيء، حتى بحبّه لشابّة الماضي هذه؛ لأنه متردّد بين عالمين، بين عالم الحكاية التي حدثت في الماضي وانتهت بموت الشابة (عالم الموتى) وبين حاضره وحاضر الفرقة الموسيقية (عالم الأحياء). ولا نجد إحساساً شعرياً بكل هذا يتفوّق على هذه السطور جمالاً في وصف وضعية العاشق الكويتي:

"كان هناك طائرٌ جاثم فوق الأمواج يهبط ويعلو معها.. وحيداً. طائرٌ، كأنما هبط من فضاء قصة أخرى، إلا أنه بدأ يألف ما حوله، وتألفه السماءُ الزرقاء وأمواجُ البحر.. وربما ستألفه الشواطئ التي قد يحطّ عليها. هل نجد ما نألفه في الحياة من حولنا إذا هبطنا من بين سطور حكايتنا؟". أو هذه السطور الأخيرة: ".. هو الغروب مرة بعد مرة، وهو ظلّ الليل، ظلّها وظلي، يمرُّ أليفاً ورقيقاً، يتهامس مع خيالٍ لا نراه".


اقرأ أيضاً: "هاتف عمومي": مدينة مختبئة خلف صوتها

دلالات
المساهمون