في أحد مشافي العاصمة الأردنية عمّان، يرقد يوسف العاني (1927) مريضاً، بعيداً عن بغداد التي استودعها ماضيه الجميل، كما استودع العاشق قمره القديم في الكرخ. إنها بغداد التي أعطى أهلها، في سنوات شبابه، متعة الفرجة على ممثل موهوب وكاتب مسرحي ومخرج مثابر.
في أكثر من سبعين عاماً قضاها بين المسرح والسينما والتلفزيون، لعب العاني أدواراً تنوّعت بين الخفة والكوميديا في بداياته، مثلما فعل في مسرحيتي "مسمار جحا" و"ماكو شغل"، إلى أن تغير مساره كله مع "رساله مفقودة" لكارجياله و"الخال فانيا" لتشيخوف.
وليس من المبالغة القول إن سيرة المسرح في العراق لا تكاد تذكر إلا ومعها سيرة العاني، الذي يعدّ واحداً من أواخر من بقي من جيل الرواد الأوائل للمسرح في البلاد. ولد "سعيد أفندي" في محلّة سوق حمادة البغدادية القديمة، ونشأ في جنباتها، إذ تشكّلت مخيلته من الحكايات والقصص التي ترويها العجائز في الكرخ، حيث التاريخ والأساطير في كل زاوية من زوايا المكان، إضافة إلى غنى الحياة الثقافية في هذه المنطقة التي كانت مركز الحياة الثقافية والسياسية البغدادية في العهد الملكي.
درس العاني القانون وتخرج محامياً من جامعة بغداد. وفي هذه الفترة من حياته، وقف على المسرح ممثلاً لأول مرة في 24 شباط/ فبراير 1944، وأسس مع زملائه، أثناء دراسته، فرقة مسرحية أطلق عليها اسم "مجموعة جبر الخواطر". وبعد تخرجه، لم يطق أن يترك الفن الذي بدأت علاقته به أيام الدراسة، فعاد متفرغاً إلى عشقه الأول، المسرح، ممثلاً ومؤلفاً، فكتب بواكير أعماله في الأربعينيات، من أهمها "القمرجية"، و"مع الحشاشة" و"طبيب يداوي الناس" و"محامي زهكان"، وأعمال أخرى.
وبعد أن كانت مسرحياته ذات مواضيع اجتماعية، اقترب العاني من السياسة في أعمال مسرحية جديدة، من ضمنها "آني أمك يا شاكر"، و"راس الشليلة"، و"عمر جديد"، و"ستة دراهم" وسواها.
ولعل أبرز ما ميّز يوسف العاني في تاريخ الحركة المسرحية العراقية هي البساطة والتماهي في الشخصيات التي يؤديها، وانفتاحه على فئات المجتمع المختلفة. كما يحسب له أنه استطاع جذب العامّة إلى مسرح النخبة عبر أعماله التي تناولت قضاياهم ومسّت صميم معاناتهم.
كانت مكونات الشخصية البغدادية بكل أبعادها الاجتماعية والثقافية تتمثل في العاني، فحرص على أن يقدّمها مسرحياً عبر أعمال عدة، من بينها "دعبول البلام". كما أنه سعى إلى استلهام الأساطير القديمة والفولكلور الشعبي للمحلّة (الحارة البغدادية) وإعادة تقديمها كأعمال فنية، منها "بغداد الأزل بين الجد والهزل" و"الليلة البغدادية مع المُلّا عبود الكرخي".
وربما كانت إيحاءات المكان ورمزيته العميقة قد أخضعت نصوص العاني لهيمنتها الروحية، فجاءت مسرحياته التي كتبها (تتجاوز الخمسين) متعمقةً في التراث رغم حداثتها من جهة، وانفتاحها على التجارب العالمية وتعاطيها مع الأفكار الحديثة فنياً وتقنياً من جهة أخرى. فضلاً عن كونها أعمالاً نقدت الواقع السياسي تلميحاً وتصريحاً، وتسببت في اعتقال العاني، المعارض دائماً، أكثر من مرّة.
العاني الذي دخل السجن ليس نفسه الذي خرج منه، إذ أضاف إلى حياته صديقَيْ العمر، مظفر النواب ومحمد مهدي الجواهري، اللذين تعرّف إليهما في المعتقل عام 1952. وزاد إيمانه بالفن بعد أن بدأ يعلّم المساجين التمثيل ويخرج مسرحيات سياسية داخل الزنزانة، مثيراً قلق الحاكم العسكري أنور الدين محمود الذي قرر في نهاية الأمر إطلاق سراحه قائلاً: "في الخارج يمكن منع مسرحياتك، لكن ما العمل وأنت في السجن!".
أصبح العاني، منذ أن مَلَكَ خشبة المسرح العراقي وجمهوره، سفيراً فعلياً للثقافة العراقية التي مثلها في عروضه الخارجية ورحلاته والمهرجانات التي شارك فيها. هكذا، مثّل بلده على مسارح مدن مختلفة، مثل لايبزغ وبرلين وميونيخ وفيينا، ثم موسكو، حيث نال جائزة في مشاركته في "مهرجان الشبيبة الديمقراطية" (1964). وبحسب كثير من النقاد، فإنه يمكن تأريخ الحركة المسرحية العراقية عبر مسيرة العاني الطويلة بكل آمالها وطموحاتها وإخفاقاتها، واقترابها أو ابتعادها عن السياسة والهم العام.
بعد أن قدّم العاني أربعين عملاً مسرحياً بين الخمسينيات والستينيات، بدأت السياسة تنغص عيشه. فبين منع لأحد العروض أو ملاحقة أو اعتقال، أصبحت الحياة لا تطاق، وإثر ذلك ترك بغداد راحلاً إلى بيروت، حيث عاش أربعة أعوام منقطعاً عن التمثيل وعاجزاً عن الكتابة. كان العاني يعيش وكأنه بلا ذراعيه، فالموهبتان (التمثيل والكتابة) كانتا بالنسبة إليه اليدين اللتين يعيش بهما. قال في إحدى مقابلاته: "سرت في دربي أعمل على تطوير الحالتين معاً حتى صارتا حالة واحدة".
وفي أواخر العام 1964 حدث أن ذهب لمشاهدة عرض "الليل والقنديل" للأخوين رحباني، فخرج باكياً في موجة حنين إلى الوقوف على الخشبة. كتب العاني مقالاً نقدياً حول الضعف في مسرح الرحابنة، ووصل الرأي إلى هؤلاء، ليكون المقال سبباً في صداقة عميقة جمعتهم بالعاني.
ورغم انغماسه في الحركة المسرحيّة، إلا أنه لم يغب عن التلفزيون والسينما، حيث مثل في العديد من المسلسلات وقدّم برامج تلفزيونية في فترات زمنية متفرقة. وكان من أشهر أعماله التلفزيونية "ثابت أفندي"، الذي حصل على جائزة أفضل سيناريو في "مهرجان اتحاد الإذاعات العربية" في تونس عام 1983، ومسلسل "يوميات محلّة"، والمسلسل التاريخي "حكايات المدن الثلاث" بجزأيه الأول والثاني، الذي يحكي تاريخ العراق في نهايات العهد العثماني.
أما في السينما، فكان أول ظهور له في فيلم "سعيد أفندي" (1958) المقتبس عن قصّة "شجار" للأديب العراقي إدمون صبري، بعد أن لفتت نظر المخرج كامران حسني فعرضها على العاني الذي أعجب ببطل القصة وأدّى دوره على الشاشة الكبيرة لأول مرة. ويعتبر الفيلم من بواكير الأفلام العربية التي تأثرت في أجوائها بالسينما الإيطالية.
مرت سنوات طويلة قبل أن يقدم العاني دوراً سينمائياً آخر، فظهر للمرة الثانية في فيلم "المسألة الكبرى" عام 1983. كما كانت له مشاركة في فيلم "اليوم السادس" ليوسف شاهين، وأفلام أخرى. وإلى جانب تأليف النصوص المسرحية والدرامية، وضع العاني عدداً من الكتب الأكاديمية في مجال المسرح والفن بشكل عام.
اليوم، يشارك العاني كثيرين من المثقفين العراقيين عيشهم على ذكرياتهم وحنينهم للسنوات الذهبية التي عرفتها الثقافة في العراق أيام الخمسينيات والستينيات، حالهم كحال كثير من أمثالهم من المثقفين العرب في منافٍ أخرى.