يرموكيون

18 يونيو 2015

.. كنا طلاباً في جامعة اليرموك

+ الخط -
المشاعر فوّارة ومختلطة، والدنيا خريف، وعمّان حلوة هذا المساء، ونحن حشد اليرموكيين العتاة نمشي سراعاً، متوترين، قادمين فرادى من طرقنا، وبلداننا، إلى حيث مكان عريض، في ليل عمان المشمس، اخترناه فضاءً لبكاء بلا صوت، ودموع بلا أذن، لنرى ما الذي سيقوله لنا الزمن بعد أكثر من ثلاثين عاماً من الغياب عن بعضنا بعضاً، وكنا طلاباً في جامعة اليرموك الأردنية. أي استجواب ذاكرة وبيانات حب، ورسائل حنين، في انتظارنا؟ّ
كانوا عشرين يرموكياً، مع عشرات من أبنائهم وبناتهم الجامعيين، وكنت الواحد والعشرين الذي جاء من رام الله، بلا أولاد أو بنات أو زوجة، جئت بكتابي الأخير وألم خفيف في الركبة اليسرى، وعلبة (هاي جل)، وشعري الأبيض. ما الذي سنقوله لبعضنا بعضاً؟ هل سنضحك على نكات الزمن الجديد؟ هل سنرّبت على بطون بعضنا بعضاً ساخرين ومماحكين؟ نحن الذين عشنا معاً في بيت واحد، تقاتلنا على الحبيبة نفسها، وحلمنا بالوطن نفسه، وهربنا من المخبر نفسه، وسرقنا البطيخة نفسها، وغششنا من الامتحان نفسه، وتشاطرنا الكتب والدموع على الشهداء المتعاقبين وتفاحات الجيران الأردنيين الطيبين ومعجون الأسنان ومرآة الخزانة المكسورة وحبات البصل المتعفن وأرغفة الجوع في أيام الانتفاضة الأولى، من إربد ورام الله وجنين وعمان ودبي والسعودية والمغرب واليمن جئنا، فلسطينيين بكثرة، ووطنيين بحزن، وخمسينيين في ارتباك.
-هذه زوجتي وهؤلاء بناتي. هذا ابني وهذه ابنتي. هذه زوجتي وهذا ابني. هاتان ابنتاي، وتلك زوجتي.
حين جاء دوري، تفحصتُ الذين حولي، لم أجد أحداً يمت لجيناتي بصلة، فلم أشر لأحد، جلست على الأرض، نظرت حولي بتمعنٍ، مرة أخرى، لم أجد ابنتي، ولم أر زوجتي، فأخرجت كتابي من حقيبتي، وصحت: هذه عائلتي، ثم أخرجت علبة (الهاي جل) وأضفت: وهذا زمني.
دبّ الضحك في الحشد، ودب الرعب في قلبي، ما الذي فعلته الكتب بي؟ عواصف من حزن وخوف وندم عشتها تلك الليلة العمانية الغريبة، لكن ذلك لم يمنعني من الانشغال بالتفكير في الزمن، الغول الذي يركض، بل توقف على مشاعرنا وجلودنا،
جرّنا من أعماقنا لنركض معه، زاحفين نحو غواية الأشياء الجديدة والماكرة. كم نعاني من الهشاشة، لكي نصدق أن في الوسع عيش الزمن الماضي الجميل في إيهاب الزمن الجديد الممتلئ نعمة وشيباً وكتباً.
انهمرنا على بعضنا بعضاً مصافحات وعناقات ودموعاً وأخباراً جديدة وذكريات، سألنا: كيف الحال؟ وأجبنا: نحن بخير. زفرنا: ياه كم كبرنا. وكم هو رائع أن نهدي العالم كل هؤلاء الأبناء والبنات – القصائد. جلس الأبناء والبنات مع بعضهم بعضاً، وجلس الآباء في الجانب الآخر من القاعة. حدّق أبناء الزمن الجديد في بعضهم بعضاً. كانوا خجلين ومتعثرين ومبتسمين، وكأنهم يقولون لبعضهم بعضاً: ما يجمعنا هنا هو مصادفة أننا أبناء هؤلاء الكهول العالقين في مشهد التقاء الزمنين الحرج.
تقدمت مني بنت، قالت: مرحباً، عمو أنا مرح بنت وائل. ثم تتابعت على ذهول وحدتي بنات أصدقائي – القصائد: مرحباً عمو، أنا راما بنت شوقي. مرحباً عمو، أنا لمى بنت حميدان. مرحباً عمو، أنا رند بنت رمضان.
كنت أصافحهن بيد وكتابي باليد الأخرى، وانتابني شعور بأن كتابي صغير وقصير أمام قامات هذه الشجيرات اليانعات، ثم سمعت كتابي يهمس لي: كان بإمكانك أن تمسك غيمة صغيرة بيدك اليسرى، وتمسك بي بيدك اليمنى. فراغ كبير بارد – تابع كتابي- سيبقى مدوياً في يدك اليسرى، ولن أستطيع، بكل ما أملك من حيوات وعواطف وأصدقاء وأزمان، أن أعوضك عن غيمة من فضةٍ وريحٍ وصوتٍ، تمسك بيدها في الشارع، وتأخذها إلى أصحابك في المقاهي، قائلا لهم: هذه الغيمة كلها ابنتي.
في الليل المتأخر، صعدت إلى سيارة أجرة، أنا والكتاب، دفعت عن راكبين، واستغرب السائق: من الثاني أيها الغريب؟
ها هو خلفك، ألا تراه؟ نظر السائق خلفه، فوجد كتابي يجلس قربي. ضحك، ومضى يسوق الشخص الغريب في ظلمة عمّان إلى أقرب فندق.
دلالات
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.