لماذا ينتحرون؟

09 يونيو 2016

صورة للشاعرة المنتحرة سيليفا بلاث على قبرها (5 مايو/2011/Getty)

+ الخط -
في كتابها المخيف "أنطولوجيا الشعراء المنتحرين في القرن العشرين"، أخذتني الشاعرة اللبنانية جمانة حداد من يديّ المتشككتين إلى أدغالٍ حقيقة بشرية، غريبة. أجلستني خلف ربوة، وقالت لي: تفرّج، وحاول أن لا تموت خوفاً من الموت، أو رغبة فيه...
ثمّة من يحب الذهاب بقدميه إلى الموت. الدوافع متعدّدة، لكن أغلبها غامض، لا يستوي مع مفهوم رغبة الإنسان التقليدية في الحياة. لا تصلح الإدانة مدخلاً لفهم هذه الظاهرة. علينا أن نصمت ونختبئ خلف ساترٍ لنراقب عمر الأشخاص وهو يتلوى بين أيديهم أنفسهم، إلى أن يغيب عن أنظارنا، نحن الذين نستجدي القدر مزيداً من العمر، مزيداً من الفرص.
تبقى الشاعرة الأميركية، سليفيا بلاث، التي تزوجت الشاعر البريطاني تيد هيوز، وعاشت طويلاً في بريطانيا، أيقونة المنتحرين، وشعلتهم السوداء، ربما بسبب طريقة انتحارها المخيفة، (وضعت رأسها داخل فرن غاز)، وربما بسبب طبيعة ميل شخصيتها، منذ الطفولة، إلى حزنٍ غير مفهوم، وذوبانه لاحقاً بدافعٍ اجتماعي شخصي، هو خيانة زوجها الشاعر الشهير الذي اعترف بذلك، فيما بعد، مبدياً ندماً واضحاً.
كان أجمل اللامبالين صديقي على غير عادته عصابياً، يروح ويجيء في البيت، من دون كلام، انتحر صديقي. قال وهو يدخن ويحدق في اللاشيء: لا أعرف جمال، لكني صديق، بشكل تلقائي، لكل من يُقدم على انتحارٍ لأسبابٍ وجودية، لا اجتماعية أو شخصية. كان صديق صديقي المنتحر طبيباً ناجحاً جداً، ولا معاناة خاصة أو متطرّفة في حياته، لا أبواب مقفلة بشكل كامل وحاسم. قرأت مرة عن شاعر نيوزيلندي، جميل وثري جداً، كان أصحابه يحتفلون بعيد ميلاده. وحين انتهت الحفلة، وعاد المدعوون إلى بيوتهم، قبّل الشاعر حبيبته، وصعد رقصاً إلى غرفته لينام. في الصباح، انتشر خبر انتحار الشاعر الذي كان في غاية السعادة في أثناء حفلة عيد ميلاده الليلة الماضية.
ما الذي يسحرني في انتحار السعداء؟ أهو تلك الشجاعة الغامضة في إلغاء الجسد السعيد، منبع الأشواق والذكريات والرغبات؟ أو القدرة الغريبة الفائقة على تخيّل ما لا يُتخيّل مما يقع، ويوجد وراء الحياة، هذه الغلالة الشفافة التي يركلها المنتحر السعيد بقدمه، ليدخل بعدها في جمال الغياب المرعب. يوماً ما، اقترب مني صديق فنان، وهمس في أذني، ونحن نمشي في حي الطيرة في رام الله: صدّقني، إنها ليست فكرة سيئة بالضرورة! صعقت من كلام الصديق الذي لم يفعلها حتى الآن، لكني كل صباح تقريباً أتصل به، متحججاً بحاجتي لغرضٍ ما، لأطمئن على عدم تنفيذه الفكرة غير (السيئة). ما الذي يحدُث لأصدقائي وأصدقاء أصدقائي؟
ما الذي يحدث للموت، ليصبح نافذة إغواءٍ لذيذةٍ، يتدافع باتجاهها للقفز والتلاشي؟ أتذكّر، الآن، صديقيّ الفنانين الجميلين في رام الله، محسن وفرانسوا، اللذيْن قفزا بإصرارٍ بهيج من النافذة، واختفيا فجأةً عنا في عتمة السر. حزيناً أتذكّرهما الآن ناقماً عليهما ومشتاقاً، ومتسائلاً، بكل مرارة العالم أية مدنٍ غير مفهومةٍ وغير قابلة للتحديد، وغريبة الرائحة نادتهما، ليتركانا وحيدين ومحتارين في مدننا المحدّدة المفهومة؟
في داخل النقمة، ثمة اعتراف داخلي دافئ بشجاعتهما، وقوة حجتهما واحترام غامض لخيارهما المجنون. النقمة مع الإعجاب الغامض تلك هي مشاعري تجاه كل منتحرٍ، يذهب سعيداً إلى الغياب الكبير. ترك الشاعر الإيطالي تشازاري بافيز، الذي انتحر عام 1950 خلفه نصاً يجسّد تلك الحسرة اللذيذة، والبهجة المؤلمة، وذلك الحنين الدامع الراقص الذي يتركه المنتحر السعيد في غرف المدن المفهومة، وهو يقفز لمدينته غير المفهومة: "سيجيء الموت، وستكون له عيناكِ
/ هذا الموت الذي يرافقنا من الصباح إلى المساء أرقاً/ وأصم/ كحسرةٍ عتيقةٍ/ أو رذيلة بلا جدوى/ ستكون عيناك حينئذ كلمة قيلت سدى/ صرخة مكتومة، صمتاً ستكونان/ مثلما تتراءيان لكِ كل صباح/ حين تنحنين على ذاتكِ في المرآة.
صرتُ مجنوناً بالفعل. أتصل كل صباح بأصدقائي واحداً واحداً، لأطمئن على وجودهم على قيد الحياة. يستغرب أصحابي من اتصالاتي المتكرّرة بالحجج الضعيفة نفسها، وهم لا يعرفون أني بذلك أنام جيداً، وأحبهم أكثر..
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.