يحدث في تركيا

10 مايو 2016

طلاب أتراك يشكلون خريطة بلدهم في اسطنبول (29 إبريل/2016/الأناضول)

+ الخط -
يعود الحبيب بورقيبة، في الفاتح من شهر يونيو/ حزيران المقبل، ممتطياً حصانه، ليقف من جديد شامخاً في قلب العاصمة التونسية. تم اقتلاع تمثاله قسراً من هذا المكان، قبل أكثر من 25 عاماً بأمر من الجنرال بن علي الذي لم يقرّر يومها فقط اغتصاب السلطة، وإنما ظن أنه قادر أيضاً على إخراج الرئيس السابق، صاحب الفضل عليه، من التاريخ.
لم تمر هذه العودة بصمت، وإنما صاحبها، ولا يزال، جدل واسع بين مكوّنات النخبة السياسية، أما الرأي العام فبقي متابعاً هذه المسألة عن بعد. لكن المؤكد أن بورقيبة عاد بقوة إلى الذاكرة التونسية الشعبية، وإلى المشهد الوطني. حتى الذين كانوا من ألد أعداء بورقيبة راجعوا مواقفهم منه، واعترفوا له بدور التاريخي في مرحلتي مقاومة الاستعمار الفرنسي، ثم بناء الدولة الوطنية. لم يقف الأمر عند اليساريين، بمختلف تياراتهم، وإنما شملت المراجعة أيضاً عموم الإسلاميين، باستثناء أنصار حزب التحرير وعموم السلفيين الذين لا يزالون مصرّين على تكفير الحبيب بورقيبة.
يمثل ما بادر إليه رئيس حركة النهضة، الشيخ راشد الغنوشي، وإخوانه، تحولاً سياسياً جذرياً، على الرغم من استمرار اتهامه بالانتهازية من خصومه، لكن المؤكد أن المعركة الثقافية والسياسية التي استمرت أكثر من أربعين عاماً بين الإسلاميين وبورقيية انتهت لصالح الأخير بعد وفاته بسنوات طويلة. وما اضطر له إسلاميو حزب العدالة والتنمية التركي عندما سلموا بولاء تركيا لكمال أتاتورك كرّرته قيادة حركة النهضة مع بورقيبة، من أجل ضمان اندماجها في المجتمع والدولة التونسية. وهو ما رفض الإخوان المسلمون الإقدام عليه، لإنهاء الخصومة التاريخية بينهم وبين جمال عبد الناصر.
لم يكتف الغنوشي بمجرد الترحّم على بورقيبة، بعد أن رفض القيام بذلك فترة طويلة، ولم يقف عند حدود الاعتراف بكل المكاسب التي أنجزها هذا الزعيم، بما فيها مجلة الأحوال الشخصية، وإنما يعمل حالياً على بناء تحالف دائم واستراتيجي مع البورقيبيين الذين، بدورهم، غيّروا موقفهم من الإسلاميين، وأخذوا يبادلونهم التودّد والغزل.
هكذا تبدو التجربة التونسية متأثرةً إلى حد كبير بالتجربة التركية، من حيث المراهنة على تحقيق التقارب بين الإسلاميين والعلمانيين، على المستويين السياسي والمرجعية الفكرية. لكن ما يجري حاليا في تركيا أصبح يثير أسئلة عديدة، بل وحتى الشكوك حول مدى مصداقية المسار الذي تبناه حزب العدالة والتنمية، ودافع عنه طوال المرحلة الماضية.
أذكر أني شاركت في ندوةٍ في اسطنبول، وفوجئت بأحد كوادر حزب العدالة والتنمية يعلن أن الحزب سيعلن، في الوقت المناسب، عن إقامة دولة اسلامية تلتزم بتطبيق الشريعة. وعلى الرغم من أن مسؤولي الحزب يرفضون وصفه إسلامياً، ويفضلون تعريفه حزباً محافظاً، إلا أن رئيس البرلمان طالب، أخيراً، بضرورة التخلي عن العلمانية، ما أحدث مفاجأة لم تكن منتظرة، ودفعت أردوغان إلى أن يؤكد أن الدولة التركية ستبقى علمانية. ولفهم ما يجري، هناك احتمالان، أحدهما أن يوجد جناح أغلبي يؤمن أعضاؤه بأن الحزب ليس سوى امتداد لمشروع حركات الإسلام السياسي. وبالتالي، هو في حالة كمون إلى أن يتغير ميزان القوى لصالحه، حتى يكشف عن هويته الحقيقية. والاحتمال الثاني أن هذه ليست سوى أصوات محدودة، لم تهضم بعد ما سميت العلمانية المؤمنة، وأن مآل هؤلاء هو الانصهار كلياً في التجربة التي أصبحت غير قابلة للعودة الى الخلف.
مهما كانت السيناريوهات المحتملة، فإنه في صورة التأكد من أن التجربة التركية ليست سوى مناورة سياسية، فإن من شأن التداعيات التراجيدية التي يمكن أن تترتب عن انتكاستها أن تنسف مصداقية أطراف عديدة، وتجعل أي ادّعاء بإمكانية بناء أحزاب إسلامية ديمقراطية على نمط المسيحية الديمقراطية قولٌ يصعب تصديقه، فحبل التكتيك في السياسة قصير جداً.
266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس