18 يوليو 2019
يحدث في البرازيل
عزيز أشيبان
كاتب مغربي، يعرّف عن نفسه بالقول "نوعية اهتماماتك ومخاوفك تحدّد هويتك".
كلما ذكر اسم البرازيل، يستحضر المستمع تصورات نمطية متوارثة عبر أجيال من قبيل: دولة الانقلابات العسكرية، دولة الظواهر الاجتماعية الشاذّة من جرائم ومخدرات ودعارة وأطفال الشوارع، ومجتمع الفوارق الاجتماعية الهائلة. ولكن الوضع تغيّر تماماً تحت قيادتين متعاقبتين في مدة لا تتجاوز العقدين، إذ فرضت البرازيل احترامها على الآخرين، بل غدت نموذجاً للدراسة والاعتبار للمتقدم والمتخلف من الشعوب.
قبل محاولة الغوص في أعماق التجربة، من المفيد التوقف ولو بعجالة على الوضع العام للبلد قبل الخوض في النموذج التنموي، إذ تقدر ساكنة البلد بـ 192 مليون نسمة وتنتظم في مجتمع غير متجانس، ويئن اللاشعور البرازيلي تحت وطأة تاريخ طويل من الاستغلال والعبودية والخضوع للاستعمار ما يقارب أربعة قرون. وهناك غياب الاستقرار السياسي بفعل الحكم الديكتاتوري ومسلسل الانقلابات، لذلك البلد يفتقر لحكومة قوية ولثقافة الديمقراطية وسيادة الحريات، إضافة إلى وجود فوارق اجتماعية هائلة وتمزق النسيج الاجتماعي، وحكامة سياسية لا تستطيع توفير الخدمات الرئيسية، ومستويات من التضخم في غاية الخطورة، وبطبيعة الحال نفسية مدمرة وحالة شاملة من اليأس والإحباط.
مؤكد أن التعامل مع هذا الإرث البغيض والثقيل يتطلب الشجاعة والصدق والعمل الجادّ، وهذا ما تحقق بتوفر القيادة الحكيمة التي تعاطت مع الوضع من العمق، وشرعت في العمل باستئصال جذور العوائق لكشف الغمة وتحقيق الإقلاع، وحددت الأهداف التالية كرؤية للمشروع المرجوّ تشييده، عبر التأسيس لبناء ركائز اقتصاد وطني وتحقيق نموّ اقتصادي مستدام، وبناء مجتمع منتج، وتثبيت الاستقرار السياسي من خلال التأسيس لديمقراطية محلية ناشئة، واسترجاع سيادة القرار الوطني بالتحكم في مستوى الديون، وتوزيع عادل للثروة والتقليص من الفوارق الاجتماعية وتقوية الطبقة الوسطى، وتحسين نمط عيش المواطن البرازيلي وتحقيق التوازن في معادلة النموّ والمساواة.
كما يعرف الجميع، تميزت التجربة البرازيلية بمرحلتين متعاقبتين، أسستا لعمل عميق ومتكامل، انتظم فيه إسهام رئيسين رسّخا مرورهما في تاريخ حكامة البلد بمنجزات استثنائية.
قاد الرئيس فرناندو هنريك كاردوسو البلاد في المرحلة الأولى، لولايتين متتابعتين (من 1994 إلى 2002) وركز على الإصلاحات الماكرو اقتصادية، لإعادة الثقة في الاقتصاد الوطني ورفع الاستهلاك وبث الحركية وربط الاقتصاد المحلي بالفاعلين الأجانب والمستثمرين.
استثمر الرئيس خبرته السابقة وزيراً للمالية، وشرع في زرع إصلاحات اقتصادية ومالية من خلال إصلاحات بنكية، الرفع من معدل الفائدة، الرفع من قيمة العملة المحلية، التقليص من التضخم، الخصخصة، الانفتاح على التجارة الخارجية ورفع القيود الجمركية، وإعادة جدولة الديون.
بخصوص الجانب الاجتماعي، قامت الحكومة بإبداع خطة لتحقيق الاستقرار وإنقاذ القدرة الشرائية للعائلات الفقيرة، من خلال توفير تحويلات نقدية شهرياً مقابل إلزام الأسرة بإرسال أبنائها الصغار إلى المدرسة، لرفع نسبة التمدرس ومحاربة الهدر المدرسي. كما عملت الحكومة على التركيز على نوعية الموارد البشرية، من خلال تحسين جودة التعليم والحد من الهجرة المطردة للكفاءات الوطنية، وتشجيع الأدمغة المحلية على العودة إلى البرازيل.
أما المرحلة الثانية، فقد تميزت باستثمار العمل القاعدي للمرحلة السابقة، وامتد خلالها عمل الرئيس لولا دا سيلفا لولايتين (2002 - 2010)، حققت البلاد خلالهما طفرة نوعية، وانتقلت إلى مصاف الدول الأسرع نمواً في العالم إلى جانب كل من روسيا والهند والصين.
تركز العمل اجتماعياً على الاستمرار في الدعم الحكومي المباشر للتخفيف من حدة الفقر، عن طريق برنامج المساعدة الاجتماعية (الحقيبة العائلية)، الذي يهدف إلى مساعدة المحتاجين مقابل إرسال أطفالهم الى المدارس، والمداومة على تتبع عمليات التلقيح. هذا البرنامج لم يكلف الدولة سوى 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي.
كما تم الحرص على استفادة جميع الشرائح الاجتماعية من ثمار النموّ الاقتصادي، وعدم تكدسها بين أياد قلة من المحظوظين.
اقتصادياً، حظي المجال الزراعي بعناية خاصة، وشهد ثورة نوعية بتحقيق نموّ زراعي على الأمد البعيد بفضل مخطط حكومي استهدف بالأساس: الاستثمار في البحث الزراعي من خلال أنشطة معهد امبرابا (احتضان الدولة للبحث الزراعي الخاص بالحبوب والريّ والصيانة التي شكلت مفاتيح النجاح)، التركيز على مساعدة المزارعين الصغار من خلال تسهيل ولوجهم وإدماجهم في عملية التصدير.
سياسياً، توصلت القيادة السياسية إلى خلق توافق حول استعجالية عملية الإصلاح لإنقاذ البلاد، وخصوصاً أن البرازيل عانت من ويلات الحكم الديكتاتوري والعبث الاستبدادي. تحقق بذلك الاستقرار السياسي والمناخ المناسب لبناء اقتصاد وطني حقيقي.
بموازاة ذلك، كان هناك عمل في العمق لتهيئة مناخ ملائم لنجاح ورش البناء في مختلف المجالات، من خلال إبداء وعي عملي من طرف القيادة بوجوب تثبيت ثقافة حكامة رشيدة، تقوم على تحديد المسؤوليات والمساءلة للحدّ من الفساد والرشوة والاحتكار. كما حظيت البنية التحتية بالأولوية وأنشأت مرافق مهمة، مكّنت البلد من تنظيم مونديال 2010 والألعاب الأولمبية 2016.
تجسد التجربة البرازيلية الإرادة الصادقة لتحقيق الإقلاع ومواجهة واقع الإمبريالية والرأسمالية المتوحشة، وما يفرضه من شرعنة دولية ومنافسة شرسة لا تبقي ولا تذر، فمتى نعتبر ونحدو حدو الأحرار الأقحاح؟
مؤكد أن التعامل مع هذا الإرث البغيض والثقيل يتطلب الشجاعة والصدق والعمل الجادّ، وهذا ما تحقق بتوفر القيادة الحكيمة التي تعاطت مع الوضع من العمق، وشرعت في العمل باستئصال جذور العوائق لكشف الغمة وتحقيق الإقلاع، وحددت الأهداف التالية كرؤية للمشروع المرجوّ تشييده، عبر التأسيس لبناء ركائز اقتصاد وطني وتحقيق نموّ اقتصادي مستدام، وبناء مجتمع منتج، وتثبيت الاستقرار السياسي من خلال التأسيس لديمقراطية محلية ناشئة، واسترجاع سيادة القرار الوطني بالتحكم في مستوى الديون، وتوزيع عادل للثروة والتقليص من الفوارق الاجتماعية وتقوية الطبقة الوسطى، وتحسين نمط عيش المواطن البرازيلي وتحقيق التوازن في معادلة النموّ والمساواة.
كما يعرف الجميع، تميزت التجربة البرازيلية بمرحلتين متعاقبتين، أسستا لعمل عميق ومتكامل، انتظم فيه إسهام رئيسين رسّخا مرورهما في تاريخ حكامة البلد بمنجزات استثنائية.
قاد الرئيس فرناندو هنريك كاردوسو البلاد في المرحلة الأولى، لولايتين متتابعتين (من 1994 إلى 2002) وركز على الإصلاحات الماكرو اقتصادية، لإعادة الثقة في الاقتصاد الوطني ورفع الاستهلاك وبث الحركية وربط الاقتصاد المحلي بالفاعلين الأجانب والمستثمرين.
استثمر الرئيس خبرته السابقة وزيراً للمالية، وشرع في زرع إصلاحات اقتصادية ومالية من خلال إصلاحات بنكية، الرفع من معدل الفائدة، الرفع من قيمة العملة المحلية، التقليص من التضخم، الخصخصة، الانفتاح على التجارة الخارجية ورفع القيود الجمركية، وإعادة جدولة الديون.
بخصوص الجانب الاجتماعي، قامت الحكومة بإبداع خطة لتحقيق الاستقرار وإنقاذ القدرة الشرائية للعائلات الفقيرة، من خلال توفير تحويلات نقدية شهرياً مقابل إلزام الأسرة بإرسال أبنائها الصغار إلى المدرسة، لرفع نسبة التمدرس ومحاربة الهدر المدرسي. كما عملت الحكومة على التركيز على نوعية الموارد البشرية، من خلال تحسين جودة التعليم والحد من الهجرة المطردة للكفاءات الوطنية، وتشجيع الأدمغة المحلية على العودة إلى البرازيل.
أما المرحلة الثانية، فقد تميزت باستثمار العمل القاعدي للمرحلة السابقة، وامتد خلالها عمل الرئيس لولا دا سيلفا لولايتين (2002 - 2010)، حققت البلاد خلالهما طفرة نوعية، وانتقلت إلى مصاف الدول الأسرع نمواً في العالم إلى جانب كل من روسيا والهند والصين.
تركز العمل اجتماعياً على الاستمرار في الدعم الحكومي المباشر للتخفيف من حدة الفقر، عن طريق برنامج المساعدة الاجتماعية (الحقيبة العائلية)، الذي يهدف إلى مساعدة المحتاجين مقابل إرسال أطفالهم الى المدارس، والمداومة على تتبع عمليات التلقيح. هذا البرنامج لم يكلف الدولة سوى 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي.
كما تم الحرص على استفادة جميع الشرائح الاجتماعية من ثمار النموّ الاقتصادي، وعدم تكدسها بين أياد قلة من المحظوظين.
اقتصادياً، حظي المجال الزراعي بعناية خاصة، وشهد ثورة نوعية بتحقيق نموّ زراعي على الأمد البعيد بفضل مخطط حكومي استهدف بالأساس: الاستثمار في البحث الزراعي من خلال أنشطة معهد امبرابا (احتضان الدولة للبحث الزراعي الخاص بالحبوب والريّ والصيانة التي شكلت مفاتيح النجاح)، التركيز على مساعدة المزارعين الصغار من خلال تسهيل ولوجهم وإدماجهم في عملية التصدير.
سياسياً، توصلت القيادة السياسية إلى خلق توافق حول استعجالية عملية الإصلاح لإنقاذ البلاد، وخصوصاً أن البرازيل عانت من ويلات الحكم الديكتاتوري والعبث الاستبدادي. تحقق بذلك الاستقرار السياسي والمناخ المناسب لبناء اقتصاد وطني حقيقي.
بموازاة ذلك، كان هناك عمل في العمق لتهيئة مناخ ملائم لنجاح ورش البناء في مختلف المجالات، من خلال إبداء وعي عملي من طرف القيادة بوجوب تثبيت ثقافة حكامة رشيدة، تقوم على تحديد المسؤوليات والمساءلة للحدّ من الفساد والرشوة والاحتكار. كما حظيت البنية التحتية بالأولوية وأنشأت مرافق مهمة، مكّنت البلد من تنظيم مونديال 2010 والألعاب الأولمبية 2016.
تجسد التجربة البرازيلية الإرادة الصادقة لتحقيق الإقلاع ومواجهة واقع الإمبريالية والرأسمالية المتوحشة، وما يفرضه من شرعنة دولية ومنافسة شرسة لا تبقي ولا تذر، فمتى نعتبر ونحدو حدو الأحرار الأقحاح؟
عزيز أشيبان
كاتب مغربي، يعرّف عن نفسه بالقول "نوعية اهتماماتك ومخاوفك تحدّد هويتك".
عزيز أشيبان
مقالات أخرى
23 مايو 2019
16 ابريل 2019
16 مارس 2019