يتحدّثون في تونس اقتصاداً

06 ديسمبر 2016
+ الخط -
بعد يومين فقط، عادت صورة تونس بقوة إلى المشهد العالمي، واستعاد التونسيون الأمل في أن تجربتهم الصعبة بعد الثورة لن تذهب سدى. فقبل ندوة الاستثمار، كانت الشكوك تحوم حول مدى قدرة تونس على مغادرة الحفرة العميقة التي وقعت فيها اقتصادياً واجتماعياً. كما كان الغموض وعدم اليقين يغمران عموم المواطنين. لا يعني ذلك أن الضباب الكثيف انقشع كليا الآن، وإنما أحسّ التونسيون أن بلادهم لا تزال تتمتع بقيمة استراتيجية لدى العالم، وهو ما يفسّر حضور ممثلين عن سبعين دولة، إلى جانب 4000 مشارك، ومنهم عدد واسع من أصحاب القرار، سواء أكانوا سياسيين أو رجال أعمال مثّلوا كبرى المؤسسات الدولية.
نجح المؤتمر تنظيمياً، باستثناء هفواتٍ تم تجاوزها بسرعة، وهو ما خلف انطباعا إيجابيا لدى المشاركين العرب والدوليين حول قدرة البلاد على إقامة تظاهرات دولية بهذه الضخامة، من دون أن تحدث فوضى، وترتكب حماقات في حق الضيوف.
ونجح المؤتمر إعلامياً، حيث واكب فعالياته عدد واسع من الصحافيين، ما روّج صورةً إيجابية عن بلدٍ حريص على إثبات وجوده على الخريطة الدولية.
ونجح المؤتمر أمنياً، إذ خلت فترة انعقاده من أية حادثة إرهابيةٍ، على الرغم من التهديدات التي أطلقتها بعض الأطراف، في محاولة منها لإرباك المشاركين. ولا شك في أن الظروف الجيدة التي جرت فيها محطات المؤتمر أعادت الثقة في تونس واستقرارها وقدراتها على مواجهة المخاطر.
ونجح المؤتمر، أيضاً، في إنجاز عقود استثمارية فعلية، بلغ حجمها 15 مليار دينار، أي أن التظاهرة لم تكن استعراضيةً، واكتفت بتلميع الصورة، وإنما تمكّنت عملياً من قطع شوطٍ نحو كسب ثقة عدد واسع من الحكومات ومؤسسات التمويل الدولية. وذلك على أمل أن يتم تحويل وعود بقية الأطراف إلى التزاماتٍ فعلية، وبذلك تكتمل الحزمة المالية، وتصبح في حدود 34 مليار دينار.
الآن، إذا عدنا إلى النصف الفارغ من الكأس، نجد أنه على الرغم من هذه الرجّة النفسية الإيجابية، والتغيير الملحوظ في مزاج عموم التونسيين، وهو شرطٌ مهم لتعزيز حظوظ الشعوب في مواجهة التحديات والكوارث، فإنه، في المقابل، لابد من التوقف عند الجوانب التالية من المشهد التونسي المعقد:
ـ حصلت تونس على دعم الحكومات المختلفة، ومعظم مؤسسات التمويل الإقليمية والدولية، إلا أنها لم تكسب، حتى الآن، ثقة المستثمرين الخواص من خارج البلاد، فالقطاع الخاص، العربي والأجنبي، لا يزال في حالة ترقب ينتظر شروطاً عديدةً من شأنها أن تدفع به نحو المغامرة. وهذا مؤشّر مهم لقياس درجات الثقة في الحالة التونسية. وما لم يلتحق القطاع الخاص بهذا المسار، فإن ما تحقق إلى الآن، على أهميته، يبقى منقوصاً وهشاً، خصوصاً على صعيد امتصاص نسب البطالة التي لا تزال تشكل التحدي الرئيسي أمام جميع الحكومات التي تعاقبت بعد الثورة.
ـ ستبقى معظم العقود التي تم توقيعها معلقة، ويمكن أن تتعرض للتجميد، وربما الإلغاء، في حال اضطرت الحكومة، تحت ضغط النقابات، إلى الشروع في دفع زيادة أجور الموظفين، بدءا من شهر يناير/كانون الثاني المقبل. أما إذا تمسّك رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، بموقفه الداعي إلى تأخير عملية الدفع إلى فترة الثلاثية الثانية من العام الجديد، فسيجد نفسه أمام إضرابٍ عام ينفذ يوم 8 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، ما سيترتب عليه ثقب جديد في ميزانية الدولة، واضطرار الحكومة إلى الانتقال إلى مرحلة التقشّف التي ستكون تداعياتها خطيرة على الجميع.
معادلة صعبة تواجه حكومة الشاهد، لكنها ليست مستحيلة. قد يلعن بعضهم النقابات والنقابيين، لكن ذلك لن يكون الجواب السليم على التحدّي القائم، فالنقابات جزء من المنظومة الديمقراطية، وهي تتحدث باسم طبقة وسطى مثخنة، ولم تعد قادرةً على مواجهة الغلاء والفساد وعدم العدالة الجبائية.
لعل الجديد في تونس اليوم أن الجميع يتحدثون لغة الاقتصاد، بعد أن غرقوا إلى الأذقان في متاهات السياسة، وهي لغة أرقام لا تنفع معها العواطف والمزايدات.
دلالات
266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس