ما لها تلك العصافير الملونة هجرت نافذتي الصغيرة؟ لم تعد تتقافز مغردة فوق أغصان الشجرة المقابلة. كنتُ، في نهايات الربيع وأوائل الصيف حين تخضر وريقات الشجرة رويداً رويداً، أراقبها بعيني مرّة وبعدستي مرّة أخرى. ثم ما لبثت الشجرة أن حملت ثمارًا تشبه العنب البري، بزغت بلونها الأخضر الذي أخذ يتدرج يومًا بعد يوم ليصبح أرجوانيًا محمرًا.
طيلة ذاك الوقت كانت عصافير النافذة تنقر الزجاج كل صباح، وتقتات بحبور فتات الخبز، أنثره بتؤدة على الحافة الخارجية كلّ مساء، فيتبلل بماء المطر المتسرّب من ثقوب المظلّة فوق باب البيت الخارجي.
استمرأتْ كرمي طيورٌ أكبر حجمًا؛ أتت الغربان والنوارس وبعض طيور لا أعرف أسماءها. كانت جميلة بريشها الغامق اللون وبين طياته ريشات فضية ورمادية. راحت حنجرتها تشهق بصفير متبدّل، لكنه متصل الانقطاع بين شهقة وأخرى، يذكرني بتغريد طيور الكناري الصفراء.
اقرأ أيضًا: رسائل الأدباء الإلكترونية
غالبًا ما تأتي العصافير وحدها، ولا تجتمع مع الغربان أو طيور أخرى على المائدة ذاتها، سواء أكانت من فتات الخبز أم من أكياس الحبوب التي علّقتها على سور الشرفة. وفيما كانت تزدهر ثمرات شجرة البوانسيانا وتنعقد خضراء اللون جافة، تكهنُت أن طعمها يشبه طعم البلح على شجرة نخيل. كانت عناقيدها تتدلى مصفّرة جافّة، قبل أن تتحول إلى رطب شهي بطعم العسل الأشقر ولونه الشفاف.
تداعت صورة النخلات المبعثرة التي تقابل شرفة بيتي في طرابلس، وهي تنضج موسماً تلو موسم بين خرائب سور مهدم لقطعة أرض تبدو مريبة بين عمارات شاهقة الارتفاع وسط العاصمة. أرض تحتل زواية الشارع الحيوي حيث سعر المتر المربع منها يساوي مبلغاً مرتفعاً. كانت قطعة الأرض في البداية، أكثر اتساعاً، وكانت أشجار النخيل تفوق العشرات عدداً. لم أكن أوثّق متى بدأت تتقلص، كلما انزاحت جانبًا المساحة الخالية وارتفع مبنى بدلًا منها، إلى درجة لمت غيابي المتكرر بحجة السفر، وفصل الصيف الحار شديد الرطوبة الذي أبعدني عن تلك الإطلالة لشهور. كنت ما أن يعود فصل الشتاء ويبدأ موسم الأمطار، حتى أخرج بعجلة للاستماع إلى موسيقى سقوط المطر واصطفاق أجنحة الطيور التي بنت أعشاشها هناك، هاربة نحو ملاذ تعرفه جيداً.
اقرأ أيضًا: مفتاح الحياة
شجرة البوانسيانا المنتصبة أمام شرفة بيتي في هولندا، طويلة القامة غرست مع رفيقاتها صفاً طويلًا محاذيًا لرصيف الشارع، مطمئنة غير خائفة من اقتلاع جذورها فجأةً، ليحل مكانها بناء إسمنتي. هي تمنح شرفاتنا ظلالًا متباعدة، لا نرجو منها حماية من شمس حارقة، بقدر ما تضيف جمالية لنسق الحي المحاط بكثير من الحدائق ذات التنسيق الحاد. لا شيء فوضويًا البتة، مقص رجل الحدائق وسيارة جزّ الأعشاب، يمرّان في فترات منتظمة وبأوقات محددة. حتى العشب الأخضر الذي استطال وانحنى ريانًا على أطراف سكة القطار القريبة، داهمته سيارة محمّلة بتروس معدنية وعاجلته بالتشذيب والقصّ. كلّ النباتات والأشجار والأزهار خاضعة لهندسة الحدائق ومخططات البلدية، وحدها الطيور تنطلق حرّة مغردة في الأعالي. بل أن عشاقها، الذين انضممتُ لجوقتهم في الاهتمام بغذائها بشكل منظّم وليس عفويًا، يشترون أكياسًا خاصة تحتوي على حبوب الأكل، تعلّق على أطراف أغصان الأشجار والشرفات. فهمت ذلك متأخرة.
كانت ثمار الشجرة تنضج، حينما اكتشفت أن طيوري لم تعد تبالي بفتات الخبز الذي التصق بحافّة النافذة لأيام. شعرت بالإهانة بدايةً، وبينما كنت أنظف ما التصق بسبب لا مبالاة العصافير المتمردة التي راحت تنقر تلك العناقيد الأرجوانية، تلتهمها وتغرد بسعادة، مرّت جارتي، ونصحتني بشراء أكياس من الحبوب تباع للطيور خصيصًا، وإذا أحببت توسيع دائرة اهتمامي، يمكنني إلقاء فتات الخبز والطعام للبط والإوز السابح دائمًا في القنوات المائية خلف البيت.
رأيت بعض الطيور الكبيرة والنوارس، تحلق قريبًا من الشجرة، فخرجت إليها مرحبّة أرمي فتاتاً أكبر، بينما غادرت العصافير الصغيرة المكان، مما أثلج صدري لوقت.
ولم أحسب حساباً لزمن تتبدّل فيه ألوان الأوراق الخضراء يومًا بعد يوم، ومن دون أن تتساقط، تصبح صفراء ثم ذهبية. بعضها استعجل التحوّل إلى اللون الأرجواني. غصنٌ واحدٌ يحمل ثلاثة أو أربعة ألوان مختلفة لورقة الشجر الخضراء صيفاً، المتقدة بلون ناري خريفاً.
اختفت الثمار تماماً، ومعها اختفت شهقات الموسيقى والسمفونية التي تعزفها الطيور كل صباح. أراقب غيابها، متأمّلة السماء الداكنة بغيوم رمادية كثيفة، بينما الرياح الباردة تهبّ من كل اتجاه. وأعود سريعاً نحو دفء المنزل، متأملة من وراء الزجاج تحولات لون الأشجار في الحي، مترقبة عودة طيوري بعد هجرة مؤقتة، نحو بلاد أكثر دفئاً. وأسأل: أتكون مع سرب الطيور التي تمرّ في سماء طرابلس كل خريف، تحلق هناك فوق ميادينها؟
تلك التي كنا نلتقط لها صوراً في ذهابها وإيابها، بينما الصبية الأشقياء يحاولون اصطيادها. وعند هذا المشهد تمنيت أن تؤوب عائدة كما رحلت سالمة وحاملة معها لحنًا قديمًا لأغنية لم أكن أفهم مراميها: "يا طيور الطايرة مرّي بهلي".
استمرأتْ كرمي طيورٌ أكبر حجمًا؛ أتت الغربان والنوارس وبعض طيور لا أعرف أسماءها. كانت جميلة بريشها الغامق اللون وبين طياته ريشات فضية ورمادية. راحت حنجرتها تشهق بصفير متبدّل، لكنه متصل الانقطاع بين شهقة وأخرى، يذكرني بتغريد طيور الكناري الصفراء.
اقرأ أيضًا: رسائل الأدباء الإلكترونية
غالبًا ما تأتي العصافير وحدها، ولا تجتمع مع الغربان أو طيور أخرى على المائدة ذاتها، سواء أكانت من فتات الخبز أم من أكياس الحبوب التي علّقتها على سور الشرفة. وفيما كانت تزدهر ثمرات شجرة البوانسيانا وتنعقد خضراء اللون جافة، تكهنُت أن طعمها يشبه طعم البلح على شجرة نخيل. كانت عناقيدها تتدلى مصفّرة جافّة، قبل أن تتحول إلى رطب شهي بطعم العسل الأشقر ولونه الشفاف.
تداعت صورة النخلات المبعثرة التي تقابل شرفة بيتي في طرابلس، وهي تنضج موسماً تلو موسم بين خرائب سور مهدم لقطعة أرض تبدو مريبة بين عمارات شاهقة الارتفاع وسط العاصمة. أرض تحتل زواية الشارع الحيوي حيث سعر المتر المربع منها يساوي مبلغاً مرتفعاً. كانت قطعة الأرض في البداية، أكثر اتساعاً، وكانت أشجار النخيل تفوق العشرات عدداً. لم أكن أوثّق متى بدأت تتقلص، كلما انزاحت جانبًا المساحة الخالية وارتفع مبنى بدلًا منها، إلى درجة لمت غيابي المتكرر بحجة السفر، وفصل الصيف الحار شديد الرطوبة الذي أبعدني عن تلك الإطلالة لشهور. كنت ما أن يعود فصل الشتاء ويبدأ موسم الأمطار، حتى أخرج بعجلة للاستماع إلى موسيقى سقوط المطر واصطفاق أجنحة الطيور التي بنت أعشاشها هناك، هاربة نحو ملاذ تعرفه جيداً.
اقرأ أيضًا: مفتاح الحياة
شجرة البوانسيانا المنتصبة أمام شرفة بيتي في هولندا، طويلة القامة غرست مع رفيقاتها صفاً طويلًا محاذيًا لرصيف الشارع، مطمئنة غير خائفة من اقتلاع جذورها فجأةً، ليحل مكانها بناء إسمنتي. هي تمنح شرفاتنا ظلالًا متباعدة، لا نرجو منها حماية من شمس حارقة، بقدر ما تضيف جمالية لنسق الحي المحاط بكثير من الحدائق ذات التنسيق الحاد. لا شيء فوضويًا البتة، مقص رجل الحدائق وسيارة جزّ الأعشاب، يمرّان في فترات منتظمة وبأوقات محددة. حتى العشب الأخضر الذي استطال وانحنى ريانًا على أطراف سكة القطار القريبة، داهمته سيارة محمّلة بتروس معدنية وعاجلته بالتشذيب والقصّ. كلّ النباتات والأشجار والأزهار خاضعة لهندسة الحدائق ومخططات البلدية، وحدها الطيور تنطلق حرّة مغردة في الأعالي. بل أن عشاقها، الذين انضممتُ لجوقتهم في الاهتمام بغذائها بشكل منظّم وليس عفويًا، يشترون أكياسًا خاصة تحتوي على حبوب الأكل، تعلّق على أطراف أغصان الأشجار والشرفات. فهمت ذلك متأخرة.
كانت ثمار الشجرة تنضج، حينما اكتشفت أن طيوري لم تعد تبالي بفتات الخبز الذي التصق بحافّة النافذة لأيام. شعرت بالإهانة بدايةً، وبينما كنت أنظف ما التصق بسبب لا مبالاة العصافير المتمردة التي راحت تنقر تلك العناقيد الأرجوانية، تلتهمها وتغرد بسعادة، مرّت جارتي، ونصحتني بشراء أكياس من الحبوب تباع للطيور خصيصًا، وإذا أحببت توسيع دائرة اهتمامي، يمكنني إلقاء فتات الخبز والطعام للبط والإوز السابح دائمًا في القنوات المائية خلف البيت.
رأيت بعض الطيور الكبيرة والنوارس، تحلق قريبًا من الشجرة، فخرجت إليها مرحبّة أرمي فتاتاً أكبر، بينما غادرت العصافير الصغيرة المكان، مما أثلج صدري لوقت.
ولم أحسب حساباً لزمن تتبدّل فيه ألوان الأوراق الخضراء يومًا بعد يوم، ومن دون أن تتساقط، تصبح صفراء ثم ذهبية. بعضها استعجل التحوّل إلى اللون الأرجواني. غصنٌ واحدٌ يحمل ثلاثة أو أربعة ألوان مختلفة لورقة الشجر الخضراء صيفاً، المتقدة بلون ناري خريفاً.
اختفت الثمار تماماً، ومعها اختفت شهقات الموسيقى والسمفونية التي تعزفها الطيور كل صباح. أراقب غيابها، متأمّلة السماء الداكنة بغيوم رمادية كثيفة، بينما الرياح الباردة تهبّ من كل اتجاه. وأعود سريعاً نحو دفء المنزل، متأملة من وراء الزجاج تحولات لون الأشجار في الحي، مترقبة عودة طيوري بعد هجرة مؤقتة، نحو بلاد أكثر دفئاً. وأسأل: أتكون مع سرب الطيور التي تمرّ في سماء طرابلس كل خريف، تحلق هناك فوق ميادينها؟
تلك التي كنا نلتقط لها صوراً في ذهابها وإيابها، بينما الصبية الأشقياء يحاولون اصطيادها. وعند هذا المشهد تمنيت أن تؤوب عائدة كما رحلت سالمة وحاملة معها لحنًا قديمًا لأغنية لم أكن أفهم مراميها: "يا طيور الطايرة مرّي بهلي".