يا إلهي، هذه ليست الجمهورية الإسلامية
من الممتع مراقبة ردود أفعال الكتاب والمشاهير الأميركيين، عندما يزورون إيران للمرة الأولى، فالواقع الذي يرونه هناك يجدونه مغايراً بالكامل للصورة المرسومة في أذهانهم، فالهتافات الصاخبة بـ"الموت لأميركا" التي يرونها في نشرات الأخبار، وتبدو ملازمة للمسيرات السنوية الكثيرة التي تنظمها الحكومة الإيرانية، تبدو كأنها آتية من مكان آخر، فالناس في الشارع يفرحون برؤية أميركي في بلادهم ويرحبون به، ويدعونه إلى منازلهم، ويقدمون له أصنافاً من المائدة الإيرانية.. قبل أيام، كان الطباخ الأميركي الشهير، أنتوني بيردن، يحدّث فريد زكريا في برنامجه على "سي إن إن" بدهشة عن إيران التي زارها، ووجدها مختلفة بالكامل عما تخيله، ليصف زيارته بأنها: "غير عادية، تفطر القلب، مربكة، ملهمة للغاية، مختلفة جداً عن إيران التي كنت أتوقع". ردة الفعل هذه شاهدتها على وجهة أستاذ وباحث أميركي، حضر للمشاركة في مؤتمر أقامته جامعة طهران، حدثني غير مصدق عن حفلةٍ، دعي إليها في منزل إيراني، وتضمنت رقصاً وشرباً كثيرين، كان الأستاذ الأميركي يتابع مشدوهاً فتاة تضع يدها في يد شاب، ويسيران جنباً إلى جنب، قائلاً: يا إلهي، هذه ليست الجمهورية الإسلامية!
قد يكتفي بعضهم بالمراقبة والدهشة، وينتقل آخرون إلى التحليل ومحاولة الفهم، وهو ما فعله عالم الاجتماع، مانويل كاستلز، الذي زار طهران قبل سنوات، ولم يخف دهشته أيضاً، لكنه أرجع ذلك إلى تحول اجتماعي، وقد توقع أن تشهد إيران تغيّراً كبيراً، وعندما سألته عن ما يسند توقعه هذا، قال: راقبي لباس النساء، وسلوكهن في الشارع.
والحقيقة أن إيران مختلفة عمّا يتوقعه الجميع، حتى نحن، جيرانها العرب، فالصورة التي نملكها عن إيران جزئية ومشوشة، وفيها تعميمات كثيرة، وهي قائمة بشكل كبير على قراءة ما يصدر عن النخبة الحاكمة، من دون انتباه إلى ما يجري في المجتمع الإيراني من تحولاتٍ أوجدت حالة من التباعد والمسافة بين شعارات الجمهورية الإسلامية الكبرى، والتي يعاد إنتاجها يومياً على لسان الساسة ورجال الدولة، وما بات يريده الناس حقيقة.
وقد يكون الشباب والنساء التجلي الأكبر لحالة التباعد هذه. منذ أشهر، تقود شابات إيرانيات حملة على الإنترنت، عنوانها "الحرية المسترقة للنساء الإيرانيات"، تشرف عليها الصحافية مسيح علي نجاد، التي تقيم في بريطانيا حالياً، وتمثل الحملة مظاهرة ضد الحجاب من فتيات ونساء داخل إيران، يصورن أنفسهن بدون غطاء للرأس، وينشرن الصورة مع رسالة مختصرة، تدين فرض الحجاب. وقد نشرت فتاة إيرانية، قبل أيام، صورة لها بدون حجاب، بجانب جدار مقر قوات التعبئة "بسيج"، التابعة لحرس الثورة، في مدينة بندر أنزلي، وكتبت على الجدار عبارات ترغب بالحجاب، وتحث النساء على رعايته. تكتب الفتاة إلى جانب صورتها: أنا فتاة إيرانية انتزعوا مني حق اختيار اللباس الذي أريد، لكنني سأواصل جهدي لانتزاع حقي في اختيار ما أرتديه، على أمل أن يأتي اليوم الذي أدخل فيه الجامعة مكشوفة الشعر، ومن دون أن يتدخل رجال الأمن بطلاء أظافري.
ومشكلة النساء ومطالبهن في إيران أعمق بكثير من مطالبة فتاة باختيار طلاء أظافرها. ولن يكون الباحث بحاجة إلى التدقيق كثيراً، ليرى غضب النساء الإيرانيات تجاه قضايا كثيرة، في بلد حملن ثورته على أكتافهن، ثم وجدن رجاله يتصدرون المشهد السياسي، ويدفعون بهن إلى المقاعد الخلفية. ولعل الملاحظة أن المطالب التي تتصدى لها نساء محجبات وملتزمات بالخط الإسلامي، تبدو أعمق بكثير من المطالبات المحصورة بالحجاب الإجباري.
قبل سنوات، في الانتخابات الثامنة لمجلس الشورى الإيراني، حاولت نساء إيرانيات تسليط الضوء على "مكان المرأة الخالي" في العملية السياسية، وأجمعن على أنهن لم يكافأن بما يستحققنه، وأن عملية التمييز هذه تتساوى فيها التيارات السياسية على اختلافها، فضلاً عن شعورهن بأن هناك من يعرقل مسيرة المرأة السياسية. وقد اطلعت على رسالةٍ وجهتها محسوبات على التيار الأصولي، (يتألف من 15 حزباً وجمعية) إلى مرشد الثورة، آية الله علي خامنئي، تحدثن فيها بجرأة عالية عن عمليات الإقصاء التي يشهدنها في المجال السياسي.
وكانت أعظم طالقاني، ابنة آية الله طالقاني أحد أهم رجالات الثورة الإسلامية، أول امرأة تتصدى لقضية منع النساء من الترشّح للرئاسة، عندما رشحت نفسها قبل نحو 15 عاماً، ومع كل دورة رئاسية تعيد تكرار المحاولة، ولا تزال تصر على أن كلمة "رجال" الواردة في القانون لا تمنع المرأة من تولي المنصب، غير أن مجلس أمناء الدستور رفض ترشيحها، على الرغم من وجود وجهات نظر فقهية وقانونية تؤيد رأيها.
الحركة النسوية الإيرانية التي يزيد عمرها عن 150 عاماً "متعددة الأيديولوجيات"، لكن خطابها، في المجمل، يقوم على الأبعاد القانونية، بوصفها أساساً لمشكلات المرأة وطريق حلها. وقد شاركت الإيرانيات على الدوام في حركة التغيير السياسي، وفي مفاصل تاريخية مهمة، لكنهن بقين مقصيّات عن مكاسب العملية السياسية ومناصبها المهمة، بفعل رجال دين متنفذين.
تسود حالة من عدم الرضا في أوساط النساء الإيرانيات، حتى من داخل التيار الأصولي، وهذه الحالة مؤهلة بشدةٍ لمواكبة حالة احتجاج سياسي، يطالب بالتغيير، وقد يكون مجاله الشارع والجامعات، والنساء اللواتي خرجن إلى المجال العام بفعل الفتوى غير مستعدات، اليوم، للعودة إلى المنازل بفعلها.
هل أبالغ إن قلت إن تغييراً مقبلاً ستشهده إيران، وسيكون على يد النساء، النساء الغاضبات؟