ياسوناري كاواباتا.. الكتابة من بلاد الثلج

14 يونيو 2020
ياسوناري كاواباتا
+ الخط -

تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها في محاولة لإضاءة جوانب من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الرابع عشر من حزيران/ يونيو ذكرى ميلاد الروائي الياباني ياسوناري كاواباتا (1899- 1972).

الأحد 17 نيسان/ أبريل 1972، غادر ياسوناري كاواباتا منزله في كاماكورا، وهي مدينة ساحلية في كاناغاوا، وأخبر زوجته قرابة الساعة الثالثة مساءً أنه ذاهب في نزهة على الأقدام، ولكنه لم يعد، وذهبت خادمة إلى البيت الذي كان يعمل فيه المؤلّف عادة، فوجدته ميتاً.

السيدة هيديكو رفضت الاعتراف بأن زوجها الروائي الأهمّ في اليابان آنذاك قد انتحر، قالت لا بد أنها حادثة؛ كان كاوباتا (1899-1972) يبلغ من العمر اثنين وسبعين عاماً وفي صحة سيئة جداً وأصيب بالتسمم من كثرة أدويته أكثر من مرة، ثم جاء تقرير الشرطة ليؤكد الانتحار وتناقلت الصحف آنذاك أن الخادمة وجدته وثمة خرطوم غاز في فمه.

تعدّدت القصص التي نسجتها الصحف والأصدقاء عن رحيل كاوباتا؛ لا سيما وأنه كان يذكر للمقربين منه أنه في كل رحلة يتمنى لو أن الطائرة تسقط وتتحطم به، البعض قال إنه انتحر لأن صحته أخذت تسوء أكثر يوماً بعد يوم، وثمة من زعم أن قصة عاطفية ظهرت متأخرة في حياته وحطّمته، بينما عزا البعض انتحاره إلى تأثره بانتحار صديقه الروائي يوكيو ميشيما (1925-1970).

لكن الكاتب تاكيو أوكونو وهو المتخصّص في سيرة كاوباتا الشخصية يذكر أن صاحب "بلاد الثلج" كان يعاني من كوابيس حول ميشيما استمرت لمدة "ثلاثمئة ليلة"، وأن شبح مؤلّف "الجياد الهاربة" كان يطارده، وأدخله في حالة ذهنية من الاكتئاب والحزن والأرق.

تظلّ دوافع كاوباتا إن كان مات منتحراً فعلاً غير معروفة بدقّة؛ والبعض استبعد واقعة انتحاره لأنه لم يترك رسالة ويبدو ذلك غريباً ومستبعداً من كاتب مثله، لا سيما وأن الانتحار لم يظهر في كتاباته ولا شهوة الموت مثلما كانت تظهر في أعمال ميشيما.

حتى أن كاواباتا في كلمته عند استلام نوبل عام 1968، وكان آنذاك أول ياباني يحصل عليها يقول "مهما كان الشخص مغترباً عن العالم، فإن الانتحار ليس شكلاً من أشكال التنوير. ومهما بدا الأمر مثيراً للإعجاب والتقدير، فإن الرجل الذي ينتحر بعيد عن عالم القديسين".

من المفارقة أن نستعيد كاوباتا اليوم في ذكرى ميلاده بالبدء في حادثة وفاته أو انتحاره؛ ولكن الموت كان مفتتح حياته أيضاً، ندرك ذلك حين نلمس حضوره الطاغي في مذكراته التي تناولت فترة طفولته، حيث عاش عند جديه بعد رحيل والديه اللذين فقدهما قبل أن يتمّ الرابعة، وفيها يروي حادثتي رحيل جدته وهو في السابعة ثم موت شقيقته وهو في التاسعة، ثم استمراره في العيش مع جده الأعمى والعاجز ويروي كيف كان يعتني بكل تفاصيل جدّه ويصف تجاعيد جسده وكيف كان يحمّمه ويساعده على قضاء حاجته، ويصف رائحة الموت التي انتشرت في حياته مبكراً قائلاً إن لها "رائحة الشعر حين يحترق".

أصدر كاواباتا أول رواية له عام 1926، وهي "راقصة آيزو" التي ترجمها إلى العربية الشاعر بسام حجار، مل كتبه بعد عدّة رحلات قام بها إلى جزيرة آيزو، وتدور حول شاب مكتئب يلتقي براقصة على الجزيرة وتأثيرها عليه.

أما العمل الذي لفت الأنظار إلى كاوباتا ووصف بأنه "تحفته"، فكان "بلاد الثلج" (1934)، وهي كذلك قصة حب بين رجل وامرأة من فتاة الغايشا، وتدور أيضاً في منطقة جبلية بعيدة عن طوكيو، وجاءت بعدها روايات "قصة الحب المشؤوم"، و"صوت الجبل"، و"الجمال والحزن"، و"العاصمة القديمة"، و"الجميلات النائمات"، لتبرز صورة مختلفة ومؤثرة للمرأة اليابانية تغيّر في حياة الرجل التي تمرّ فيها.

في القصة القصيرة، حفلت مجموعتاه "قصص بحجم راحة اليد"، و"ذراع واحدة" بالشخصيات والأحداث العميقة والغربية والتي كانت تتأمل في اليابان ما بعد الحرب وتفكّر وتتذكر اليابان ما قبلها.

أما "هندباء برية" آخر روايات التي نقلها إلى العربية الشاعر جولان حاجي، وصدرت في 2018 عن "دار الساقي"، فربما تكون أفضل أعماله على الإطلاق وهي رواية مليئة بالألعاب النفسية والأفكار الفلسفية، والصور اليابانية شديدة الخصوصية. وإلى جانب شخوصها من البشر فإن أحد أهم أبطالها هو جرس البرج في مصحّ الأمراض العقلية في مدينة إيكوتا الهادئة والجميلة، حيث تصطف زهور الرواية -الفخمة بلا مبالغة- على ضفاف النهر.

يبدأ العمل بالأم والصهر وهما يودعان ابنتها في المصح، ثم يسيران معاً على الطريق على ضفة النهر، ويصلهما صوت الجرس وهي تطرقه بقوة، كما لو أنها كانت تقول لهما وداعاً، ويبدو كما لو أن قرع الجرس يهيمن على الرواية بأكملها.

المساهمون