وَدَاعَة أبو أحمد

29 أكتوبر 2019
+ الخط -
كان أبو أحمد أحد أبناء الحارة الطيبين الذين عاشوا فيها سنوات مديدة من عمره، قضى جلّها في الترحال والسفر بعيداً عن زوجته وأبنائه الصغار، وكل ما كان يهمّه البحث عن السفر والتغنّي به، وكان في أغلب محطاته التي يسافر فيها خارج مدينته الصغيرة التي تتكئ على شاطئ الفرات، ما كان يقضيها بعيداً عن أهله وأسرته وأصدقائه ومعارفه ومحبيه، متنقلاً بين دول ومدن عدّة، والتوقف في إحدى محطّاته في مدينة طرابلس الغرب الليبية التي قضى فيها ما يزيد عن الخمس سنوات برفقة أسرته في هذه المرّة، كما كان برفقته أخوته وأسرهم. كانت الفرصة متاحة لأن يستمر هناك سنوات، بعد أن عثر على عمل طالما أحبّه، وبحث عنه في غير مرّة.

أراد أبو أحمد أن يُحقق الكثير من رغباته وآماله في البحث عن السفر الذي تعلّق به إلى حد النخاع ويشغل وقته على الرغم من أنه يبعده في أغلب رحلاته عن أهله وأسرته التي كثيراً ما تعلّق بها وتشكو غيابه.

كانت الرغبة في هذه المرة تناديه للمرة الثانية والثالثة والعاشرة، وكان السفر هاجسه الوحيد في هذه الدنيا لا سيما أن واقعه المعاش، وفقر الحال يدفعانه للسفر بصورةٍ مستمرة للهروب من هذا الواقع المؤسي الذي يعيشه يومياً، على الرغم من أنه تجاوز الستين من عمره، إلا أن العمر بالنسبة لأبو أحمد لم يكن مشكلة بل كان يجد فيه رغبة وتحديا، وهمّة الشباب التي تلاحقه وكان يرى في نفسه ابن الثلاثين ربيعاً.


كانت روحه المرحة ورغبته تحضّانه، بصورة مستمرة، على ركوب هذا الطريق على الرغم من المرض الذي ألمّ به وهو في سنّ اليفاع، إلا أنَّ ظروفه الحياتية، وحال أسرته الفقيرة والحاجة إلى المال للإنفاق عليها تدفعان به إلى الإقدام على السفر، وبصورةٍ مستمرة وبدون كلل أو ملل..

لم يكن أمام أبو أحمد أن يقرّر ما يريد بعيداً عن الكثير من الصور السلبية التي كان يمكنها أن تحد من رغبته الشديدة في السفر الذي يعد بالنسبة له هاجسه الأساس في هذه الحياة، وفي حال قرر العزم على الرحيل تراه يُقبل على بيع ما قد امتلكه يوماً من مقتنيات بيته، أو يضطر إلى الاستدانة، أو الاقتراض من جار عزيز أو صديق قريب ليتمكن من تأمين تذكرة الطائرة وما يكفيه لقاء مغادرته مدينته التي يعشقها، وهو المحبوب من قبل أهله وأصدقائه، إلا أن الظروف السيئة تلزمه بركوب هذه الموجة لتوفير الحياة الآدمية التي تليق بأسرته، وإن كان بعض أولاده حاول جاهداً الركض أمام أهله ليدفع بهم نحو تحقيق حياة آمنة ومستقرة، في السفر إلى لبنان ومضي زمن ليس بالقصير هناك، والعمل في أعمال مجهدة حتى تمكن من تحصيل ما يمكن أن يعين به والده على مصروف البيت، والتمكن أخيراً من إدارة محل صغير للحلاقة الرجالية بعد أن تم اقتطاع جزء يسير من مساحة دار سكنهم ذات المساحة البسيطة، وكان دخل المحل مقبولاً نسبياً، فضلاً عن أنه كان يخفّف عنهم برغم ذلك من مصروف البيت والاحتياجات الكثيرة التي تتطلبها أسرتهم الكبيرة، وسداد ما يترتب عليها من مصاريف باهظة، فضلاً عن زوجته النشطة التي كانت تحاول جاهدة مساعدة أولادها وتخفف عنهم بعض الحاجة بالعمل في خدمة الناس الأثرياء الموسرين من أهل المدينة.

وبعد مضي نحو سنتين، استطاع أبو أحمد الحصول على تأشيرة سفر إلى الولايات المتحدة الأميركية بمساعدة صديق له كان يُحبه كثيراً ويقدره، ويفضله على أبنائه، وكان يُحسد من قبل أهل حارته التي يعيشون فيها على العلاقة الحميمية التي تربطهما مع بعض، حتى أن أهل صديقه كانوا يتضايقون جداً من روح هذه العلاقة، لا سيما أن فارق السن بينهما كبير جداً، إلا أن صديقه الوحيد المحب له ولخصاله وطباعه النادرة، فقد كان يلقى كل الاحترام والود من قبله، في الوقت الذي لم يقصّر في تقديم ما يطلب منه ومساعدته مادياً في أكثر من مرّة.
كان أبو أحمد يمتاز بروحه المرحة، وبحديثه المشوّق السلس، وببساطته وخفة دمه، وتراه في أحاديثه يجذب الكثير من معارفه وأصدقائه ولا سيما أنه كان بسيطاً في تعامله، ولم يعرف يوماً الحقد أو الحسد طريقاً إلى قلبه بل على العكس كان محباً للناس كل الناس، وكان يساعدهم قدر الإمكان وبضمن إمكاناته، ويضطر إلى أن يدفع من جيبه الخاص لقاء حل مشكلة ما.

كان بفطرته يفرح جداً بمساعدة الناس، ويهتم بهم أيّما اهتمام، وكان لطيفاً دمث الخلق، كريماً مضيافاً إلى درجة بعيدة، وتراه يجلس في الشارع العام على الرصيف أمام بيته المتواضع يرحّب بالمارّة من أهل حارته، وغيرهم طالباً منهم مشاركته في كأس من الشاي أو فنجان من القهوة العربية المرّة التي يُحبها جداً، ويدفع بكل ما لديه لأجل إحضارها إلى بيته، وكان أكثر ما يغمره من فرحة مشاركته الآخرين في ما يقدم من مشروبات ساخنة على الرغم من فقر الحال الذي يمر فيه، إلا أن رغبته وما جُبل عليه يدفعان به إلى الترحيب بمعارفه وجيرانه، وأقاربه الذين يجاورونه في السكن الذي يقيم فيه، وكل من يمر في الشارع الذي يجلس على رصيفه وأمام بيته ساعات، وهذا ما كان يثير البقية من الناس البغيضين الذين ينظرون إلى تصرفاته على أنها لغاية ما، ولإدرار عطفهم ومشاركتهم همومه والفاقة التي يعاني منها، وإنما ما كان يقوم به هو طبع متجذّر فيه.

هذه بساطته وطبيعته التي أحببناها في أخلاق أبو أحمد الرجل الطيب الذي كان مثالاً يضرب في حب الناس، وتقديرهم بعيداً عن أي هدف أو غاية يراد منها رسم مفسدة، أو محاولة منه في استرضائهم وفي إغداق عطاءاتهم التي كان يرفضها ولا مجال للنقاش فيها. طَبع جُبل عليه، وليس باليد التخلّص منه، هذا الطيب والخدمة التي تخلو من الغش، وأكثر ما كان يميز أبو أحمد رغبته في الترحال والسفر بعيداً عن جمع المال الذي لم يعنِ بالنسبة له شيئاً، أو الغنى، إذ لم يكن يخطر ببال له يوماً أن يكون من أصحاب الأموال والعمارات والأطيان، بل كل ما يهمّه أن يعيش مسرور البال، مكتفياً وأسرته مادياً.

لم تكن هذه الطريقة المثالية للواقع الذي كان يرغب في أن يعيشه ويتأمله أبو أحمد، بل كانت رغبته أن يشاهد أبناءه الأربعة، أكبرهم أحمد في الثانية والعشرين من عمره، من حملة الشهادات، الدراسة الثانوية كخطوة أولى، وكان يتأمل فيهم على الأقل أن يتجاوزوا في دراستهم مرحلة دراسية مقبولة أسوة بأبناء أصدقائه وجواره، وحتى أقاربه الذين كانوا في وضع جيد أسوة بتحصيل أبنائه الدراسي الذي لم يكن راضياً عنه، فضلاً عن وضعهم المعيشي المستقر بفضل الأعمال التي يقومون بها بمهارة وبجدية..

إنّ الظروف، وفي كل ما أوتي، كانت تقف حجر عثرة في وجه أبنائه، ولم يكن في اليد حيلة من تجاوزها، وإنما اتسعت الدائرة حولهم وضاقت بهم، وصارت أكثر صعوبة من ذي قبل، ورغم ذلك فقد تحمّل عبأها، وكادت أن تهوي به لولا أنّه ظل متابعاً وجلداً وحازماً في اتخاذ قراراته التي كانت في مجملها تلوذ بالصمت، ولم يجد بداً من السفر والبعد عن أسرته برغم كل الظروف التي تحيق به، واللحاق بركب الدول الكبرى بعد أن تمكّن من تحصيل تأشيرتها، عسى وعلّ أن يُحقق لها ما أراد وينقذها مما هي عليه، وأقلّها تجاوز محنته وإرضاء ضميره بكسب ما يمكن، لأجل كسر قاعدة العوز والحاجة والفقر الذي يعيشه، ومن خلال سفره الذي مضى فيه، وقضاء بعض الوقت هناك استطاع تأمين المبلغ المالي الذي مكّنه من بناء غرفتين ومطبخ من الإسمنت آوت شيخوخته وعوزه، وساعده في إكمالها بعض الموسرين من أصدقائه وأخوته، وَحَدّه من الركض وراء المجهول ومطاليبه الكثيرة لأجل العيش بكرامة في كنف أسرته وبين أولاده، وبالقرب من أهله وجيرانه الذين يحبونه ويعشقون براءته، والإنصات إلى أحاديثه وحكاياته اللافتة، والعيش في بساطة ودعة إلى أن فارق الحياة وبكل رضىً من ضميره..
دلالات
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.