04 نوفمبر 2024
وهْم حصار الدول والشعوب
يُعَدُّ فرض الحصار عقاباً واهياً، من غير المعلوم لماذا يواظب من شهِد عدم جدواه تكرار تجربةِ فرضه. ففي وقت تكون فيه الحكومات هي المستهدفة منه، تدفع الشعوب أثمان آثاره الباهظة، الأمر الذي يعوِّل عليه المحاصرون، من أجل دفعها إلى تغيير حكوماتها أو حكامها، أو على أقل تقدير، جعلها تقبل الشروط التي يُطلب منها تنفيذها، الأمر الذي قليلاً ما يحصل، لأسبابٍ عديدة، تتعلق بالشعوب ذاتها أولاً، وبحكوماتها ثانياً. وإذا ما بدأنا استعراض تجارب حصار دول عربية، كان جديدها الذي فرضته دولٌ خليجية على دولة قطر، نصل حتماً إلى تلك النتيجة.
وللمفارقة، اشتركت الدول التي فرضت الحصار على قطر، أخيراً، بالحصار المباشر وغير المباشر على دولٍ أخرى، ولمست لمس اليد عدم جدواه، على الرغم مما أحدثه من آثارٍ كارثية، ليس أقلها إفقار الشعوب وتجويعها، من دون أن يدفعها ذلك إلى تغيير حكوماتها، بل على العكس، جعلها، في حالات كثيرة، تتغاضى عن مثالب حكامها وتقدّم الدعم لهم. ومن تلك التجارب ما انقضى، كما في تجربة العراق، ومنها الذي ما زال ماثلاً، كما في الحصار على السودان وسورية وقطاع غزة.
وفي هذا السياق، ساهمت الدول التي فرضت الحصار على قطر، في زيادة دعم الشعب
القطري مواقفَ قيادته، فقد أبدى عدم الاستعداد للتراجع عما تحقق لبلاده من مكانةٍ على الصعيد الدولي. ولافت للنظر أن المؤسسات الإعلامية ومراكز الأبحاث والمعاهد التي مهدت لإعلام مغاير، وأبرزت للمتلقي العربي، الرأي الآخر، علاوة على كسرها احتكار الحكومات العربية الخبر، ومجالات البحث، هي التي تطالب دول الحصار بإغلاقها شرطا لرفعه.
لكن، على ماذا تعوّل هذه الدول من أجل إخضاع حكومة قطر، وجعلها تذعن لمطالبها وتنفذ شروطها؟ هل هو انتظار أن ينقلب هذا الشعب على حكومته، بسبب الضيق الذي قد تدخله فيه هذه الدول؟ هذا الأمر بعيد المنال، حيث ظهر مدى مرونة مؤسسات الدولة في قطر في مجال البحث عن بدائل توريدات الدول الأربع، إضافة إلى الأهم، وهو بدء التفكير بمنتجٍ قطريٍّ بديل، في قطاعي الصناعة والزراعة يعوّض عما فقدته البلاد، وعوّضته من موردين آخرين، وما أكثرهم، وما أسرعهم في إبداء الاستعداد لتلبية متطلبات السوق القطرية، وتوفير حاجات المواطنين. إضافة إلى ذلك، هنالك العامل الأهم، وهو أن الدول التي فرضت الحصار أربعٌ فحسب، من دون بقية دول العالم. فإذا علمنا أن الولايات المتحدة التي تدعو إلى حل الأزمة الخليجية، والتي يعد دورها حاسماً في أي حصار، بسبب تحكّمها بالنظام المالي العالمي، ليست في وارد مشاركة تلك الدول حصارها، بل على العكس وقَّعَت عدة اتفاقيات مع الحكومة القطرية، وتستعد لإجراء مناورات عسكرية مع جيشها.
ومن تجارب الحصار الماثلة، حالة السودان الذي يعيش ضمن دوامة حصارٍ فرضته الولايات المتحدة عليه منذ سنة 1983، خلال حكم الرئيس السابق، جعفر النميري. وتَواصَل واشتد خلال حكم الرؤساء الذين خلفوا النميري، ليصل إلى ذروته، وتشارك دول عربية فيه، سنة 1990، خلال فترة حكم الرئيس عمر البشير، بسبب موقف الخرطوم من احتلال العراق الكويت حينها. وعلى الرغم من آثاره الكارثية على مجمل القطاعات الاقتصادية السودانية، وتدهور النظام المالي في البلاد، وحرمان البلاد من مجاراة التقدم التكنولوجي، نتيجة منع التكنولوجيا الغربية عنها، واتباع الحكومة السودانية سياساتٍ تقشّفية حادة، مَسَّت معيشة المواطنين اليومية، إلا أن ذلك كله لم يؤدِّ إلى دفع الشعب إلى تغيير حكومته، عبر ثورة أو انقلاب عسكري، إذا ما وضعنا القلاقل والاحتجاجات التي سادته على حدة.
كذلك، لم يسقط نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، بفعل الحصار الذي فرضته معظم
دول العالم على العراق، منذ سنة 1990. لقد تَطلَّبَ إسقاطه تحشيد الولايات المتحدة قواتها وقواتٍ بريطانيةٍ وكوريةٍ جنوبيةٍ وقوات من أستراليا والدنمارك وبولندا من أجل غزو هذا البلد، وإسقاط نظام الحكم فيه، سنة 2003. ولا شك في أن ثلاث عشرة سنة من الحصار دمرَّت العراق حاضراً ومستقبلاً، وأعادته إلى عصر ما قبل الصناعة، كما صرح وزير الخارجية الأميركي، جيمس بيكر، يومها. لكن، ربما كان وارداً استمرار صدام حسين في الحكم إلى أجل غير مسمى، على الرغم من الحصار، لو لم يحصل ذلك الغزو.
وبالنسبة إلى سورية، كان الشعب هو المتضرّر الأول من الحصار، حيث لم تنفع العقوبات والمقاطعة في جعل النظام السوري ينصاع لقرارات مجلس الأمن. علاوة على ذلك، زادت تلك القرارات الدعم الذي يتلقاه النظام من مؤيديه، ومن فعاليات البلاد الاقتصادية والمَدينية. إضافة إلى ذلك، أظهرته ندّاً للقوى الإمبريالية في نظر قوى يسارية عالمية وقومية عربية، صابغة عليه صفة القادر على الصمود في وجه عشرات الدول المعادية لنهجه. كما أن آثار الحصار الاقتصادية، وانعكاسه سلباً على معيشة جمهور واسع من السوريين، لم تدفعهم إلى التفكير في تغيير نظرتهم إليه، خصوصا في المناطق التي تعد مؤيدة، ليس في الساحل السوري فحسب، بل في دمشق ومناطق أخرى.
ويأتي المثال الأوضح على عدم جدوى الحصار في كسر إرادة الشعوب، من قطاع غزة، حيث ما زال الشعب الفلسطيني هناك يتحمل الحصار الذي فرضته قوات الاحتلال الإسرائيلي عليه، بسبب اختياره حركة حماس في انتخابات سنة 2006. كذلك ما زال يتحايل على هذا الحصار الذي عزّزته أنظمة عربية، في مقدمتها النظام المصري في عهدي حسني مبارك وعبد الفتاح السيسي.
ومن هنا، يُطرح السؤال إن كان لحصار الحكومات والشعوب جدوى في إجبارها على الإذعان لشروط فارضيه. كما يجب التساؤل إن كانت الدول التي تفرضه تدرك أنه وهمٌ، وأنها تعيش آمال تحقق ما تريده منه، غير داريةٍ بقدرة الشعوب على التعامل مع الأزمات، وامتصاصها، والبحث في خضمها عما يحقق لها التلاؤم مع واقعها، علاوة على قدرتها على ابتداع أساليب تجعل من الحصار مجرَّد وهمٍ.
وللمفارقة، اشتركت الدول التي فرضت الحصار على قطر، أخيراً، بالحصار المباشر وغير المباشر على دولٍ أخرى، ولمست لمس اليد عدم جدواه، على الرغم مما أحدثه من آثارٍ كارثية، ليس أقلها إفقار الشعوب وتجويعها، من دون أن يدفعها ذلك إلى تغيير حكوماتها، بل على العكس، جعلها، في حالات كثيرة، تتغاضى عن مثالب حكامها وتقدّم الدعم لهم. ومن تلك التجارب ما انقضى، كما في تجربة العراق، ومنها الذي ما زال ماثلاً، كما في الحصار على السودان وسورية وقطاع غزة.
وفي هذا السياق، ساهمت الدول التي فرضت الحصار على قطر، في زيادة دعم الشعب
لكن، على ماذا تعوّل هذه الدول من أجل إخضاع حكومة قطر، وجعلها تذعن لمطالبها وتنفذ شروطها؟ هل هو انتظار أن ينقلب هذا الشعب على حكومته، بسبب الضيق الذي قد تدخله فيه هذه الدول؟ هذا الأمر بعيد المنال، حيث ظهر مدى مرونة مؤسسات الدولة في قطر في مجال البحث عن بدائل توريدات الدول الأربع، إضافة إلى الأهم، وهو بدء التفكير بمنتجٍ قطريٍّ بديل، في قطاعي الصناعة والزراعة يعوّض عما فقدته البلاد، وعوّضته من موردين آخرين، وما أكثرهم، وما أسرعهم في إبداء الاستعداد لتلبية متطلبات السوق القطرية، وتوفير حاجات المواطنين. إضافة إلى ذلك، هنالك العامل الأهم، وهو أن الدول التي فرضت الحصار أربعٌ فحسب، من دون بقية دول العالم. فإذا علمنا أن الولايات المتحدة التي تدعو إلى حل الأزمة الخليجية، والتي يعد دورها حاسماً في أي حصار، بسبب تحكّمها بالنظام المالي العالمي، ليست في وارد مشاركة تلك الدول حصارها، بل على العكس وقَّعَت عدة اتفاقيات مع الحكومة القطرية، وتستعد لإجراء مناورات عسكرية مع جيشها.
ومن تجارب الحصار الماثلة، حالة السودان الذي يعيش ضمن دوامة حصارٍ فرضته الولايات المتحدة عليه منذ سنة 1983، خلال حكم الرئيس السابق، جعفر النميري. وتَواصَل واشتد خلال حكم الرؤساء الذين خلفوا النميري، ليصل إلى ذروته، وتشارك دول عربية فيه، سنة 1990، خلال فترة حكم الرئيس عمر البشير، بسبب موقف الخرطوم من احتلال العراق الكويت حينها. وعلى الرغم من آثاره الكارثية على مجمل القطاعات الاقتصادية السودانية، وتدهور النظام المالي في البلاد، وحرمان البلاد من مجاراة التقدم التكنولوجي، نتيجة منع التكنولوجيا الغربية عنها، واتباع الحكومة السودانية سياساتٍ تقشّفية حادة، مَسَّت معيشة المواطنين اليومية، إلا أن ذلك كله لم يؤدِّ إلى دفع الشعب إلى تغيير حكومته، عبر ثورة أو انقلاب عسكري، إذا ما وضعنا القلاقل والاحتجاجات التي سادته على حدة.
كذلك، لم يسقط نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، بفعل الحصار الذي فرضته معظم
وبالنسبة إلى سورية، كان الشعب هو المتضرّر الأول من الحصار، حيث لم تنفع العقوبات والمقاطعة في جعل النظام السوري ينصاع لقرارات مجلس الأمن. علاوة على ذلك، زادت تلك القرارات الدعم الذي يتلقاه النظام من مؤيديه، ومن فعاليات البلاد الاقتصادية والمَدينية. إضافة إلى ذلك، أظهرته ندّاً للقوى الإمبريالية في نظر قوى يسارية عالمية وقومية عربية، صابغة عليه صفة القادر على الصمود في وجه عشرات الدول المعادية لنهجه. كما أن آثار الحصار الاقتصادية، وانعكاسه سلباً على معيشة جمهور واسع من السوريين، لم تدفعهم إلى التفكير في تغيير نظرتهم إليه، خصوصا في المناطق التي تعد مؤيدة، ليس في الساحل السوري فحسب، بل في دمشق ومناطق أخرى.
ويأتي المثال الأوضح على عدم جدوى الحصار في كسر إرادة الشعوب، من قطاع غزة، حيث ما زال الشعب الفلسطيني هناك يتحمل الحصار الذي فرضته قوات الاحتلال الإسرائيلي عليه، بسبب اختياره حركة حماس في انتخابات سنة 2006. كذلك ما زال يتحايل على هذا الحصار الذي عزّزته أنظمة عربية، في مقدمتها النظام المصري في عهدي حسني مبارك وعبد الفتاح السيسي.
ومن هنا، يُطرح السؤال إن كان لحصار الحكومات والشعوب جدوى في إجبارها على الإذعان لشروط فارضيه. كما يجب التساؤل إن كانت الدول التي تفرضه تدرك أنه وهمٌ، وأنها تعيش آمال تحقق ما تريده منه، غير داريةٍ بقدرة الشعوب على التعامل مع الأزمات، وامتصاصها، والبحث في خضمها عما يحقق لها التلاؤم مع واقعها، علاوة على قدرتها على ابتداع أساليب تجعل من الحصار مجرَّد وهمٍ.