أنا تاجرٌ من أصول أرمينية، نزح مع أهله في بداية القرن من أرمينيا إلى لبنان، واستقرّت العائلة في بلدة عنجر، "مدينة الأموين"، مع العديد من العائلات والأفراد الذين خسروا وطنهم من جرّاء التهجير والمجازر.
على مدى عشر سنوات، كنت أتنقل بين عنجر وشمال فلسطين في إطار أعمالي التجارية، ماراً ببعض القرى التي تفصل عنجر عن رياق حيث محطة للسكك الحديدية، مستعيناً بالدواب لنقل البضائع التي أشتريها من أهالي المنطقة، وهي عبارة عن مونة شتوية، كالمربيات والكشك والشنكليش واللحوم المجففة على الطريقة الأرمينية، "البسطرمة والسجق" وغيرها من البضائع التي تُصنع في قرى البقاع.
كانت هذه الرحلة تستمر لأسبوعين وكنت أقوم بها مرتين أو ثلاث مرات في السنة. عند وصولي إلى محطة رياق، كنت أُفرغ كل الحمولة الموجودة على الدواب داخل مستوعبات كنت أقوم بحجزها مسبقاً داخل القطار المتجه من رياق إلى دمشق، ومن بعدها يتجه جنوباً إلى درعا، حيث يتبدّل الركاب، ويتخذ كل منهم اتجاهاً مختلفاً، ويستقر بعض هؤلاء في درعا.
من بعد الاستراحة، يتجه القطار شرقاً نحو حيفا فيمر بالكثير من القرى الفلسطينية، وأهمّها الموجودة في مرج ابن عامر، المشهور بمساحته الزراعية وطبيعة أراضيه الخصبة.
في بعض رحلاتي، كنت أجد زبوناً في منتصف الطريق، يشتري مني ما أحضرت من بضائع، مقابل ربح قليل، فأختصر رحلتي وأعود أدراجي إلى بلدتي عنجر لأجهّز نفسي لرحلة تجارية جديدة، وأحياناً كانت الرحلة تطول.
كان سوق حيفا هو الأفضل، من ناحية الزبائن من جهة، ولأنه يحتوي على بضائع مميزة كالصابون أو البضائع المستوردة من مصر وأوروبا، والتي كانت تنقل إليه من مرفأ المدينة الذي ينبض بالحياة، كانت أسواق حيفا كلها مقصداً للتجار والزبائن يأتون إليها من المدن البعيدة والقرى المحيطة بها.
في السنوات الأخيرة، تكاثرت المحطّات على خط سكة الحديد، خاصةً في المرج؛ مرج ابن عامر، ومع زيادتها بدأت تظهر البيوت المتراصة قربها. تختلف تلك البيوت والمجمعات السكنية عن البيوت الموجودة في القرى المتناثرة منذ زمن بعيد، وليس بها محطات للقطار.
علمت من بعض الركاب أن البيوت الجديدة هذه هي سكن مؤقت ليهود نزحوا بسبب الاضطهاد في أوروبا، وبسبب الحرب العالمية الدائرة هناك، وأنهم سيعودون إلى بلادهم فور انتهائها، وفي أحاديث أخرى مختلفة قيل أن هؤلاء اليهود الأجانب يستوطنون هذه الأراضي لبناء وطن جديد لهم. لم أكن أشارك في أي نقاش حول هذا الموضوع، كان كل تفكيري يتركز حول كيفية تسويق البضاعة التي أحملها معي.
في الفترة الأخيرة، تواترت الأنباء حول إمكانية أن ينسحب الإنكليز من فلسطين، كما انسحب الفرنسيون من لبنان وسورية، ويستمتع الفلسطينيون بالاستقلال كما هو حال الدول المجاورة لهم. كل هذه الأخبار كنت أسمعها من الباعة في السوق أو من ركّاب القطار في رحلتي.
كانت أخبار الاستقلال تتضاعف في تنافٍ مع المشهد العام، ومع كثرة المستوطنات، وتغيّر المشهد الجغرافي على طول الخط الحديدي، وخاصة في المرج، بدأت أسأل أكثر عما يحدث في فلسطين، وخاصة أن الكثير من القرى كانت قد تراجعت عن الخريطة، في تزامن مع وقوع الكثير من الأحداث الغريبة كتفجير محطة حيفا من قبل بعض اليهود، وفق ما رواه لي أحد التجار في المدينة.
بعد انقطاع أكثر من خمسة أشهر، بسبب الشتاء وأمور أخرى، ومع مرور سنتين تقريباً على انتهاء الانتداب الإنكليزي، تناهت إلى مسامعي أخبار عن بعض الأعمال التخريبية التي تعرّضت لها بعض المحطات على الخط الحديدي، وكنت قد قرّرت العودة من جديد لنشاطي التجاري.
وصلت المحطة قبل أن أبدأ بجولتي التجارية المعتادة. في تلك الرحلة كانت المدينة شبه فارغة، ذهبت إلى أمكنتي المعتادة، أخبرت بعض الأشخاص بوصولي سالماً، قصدت مطعمي المفضل، لكني لم أشعر بالطمأنينة، ثم ذهبت إلى النوم في نزل اعتدت أن أنزل فيه.
بعد أقل من أسبوع في حيفا قرّرت العودة إلى عنجر، لم يكن السوق كما كان حاله في السابق، بعت بضاعتي بأقل من السعر المعتاد، عدت إلى مكان سكني، قبلها تناولت العشاء مع أحد الأصدقاء، أخبرني أن الوضع لم يعد كما كان، وأن اليهود كوّنوا عصابات شبيهة بالجيوش النظامية، يقومون باحتلال القرى وتهجير من بقي من سكانها بعد ارتكاب المجازر في حقهم، بحجج دينية كثيرة، ومن ضمنها أن أرض فلسطين هي أرض الميعاد، وأنهم أحق بها من سكانها الأصليين، وأنهم يقومون بتفجير بعض المصالح الحكومية في المدن المختلفة.
في تلك الليلة بدأت بتوضيب أغراضي، لأجهّز نفسي للعودة إلى عنجر، لم أستطع النوم. عادت بي الذاكرة إلى أرمينيا أيام الحكم العثماني، استعدت المجازر التي شهدت عليها والتهجير الذي عشته. ثم راح حديث صديقي يتردد في مخيّلتي، كلامه عما يحدث في القرى والمدن الفلسطينية وما تركه الانتداب من شوائب.
أعادني أزيز الرصاص إلى الواقع، الرصاص لم يهدأ منذ ساعات المساء الأولى مترافقاً مع صوت الآليات العسكرية التي تجوب الأحياء القريبة من النزل، وكنت وسط هذا كله أتساءل إن كنت سأعود مرة أخرى إلى عنجر.
لا أذكر متى وكيف غفوت أخيراً، أذكر أن صاحب النزل أيقظني بطريقة هستيرية، وطلب مني أن أغادر المكان بأسرع ما يمكن، كان يلهث وهو يتحدث عن الوجود الكثيف للعصابات اليهودية في الشوارع، ويقول أن الوضع غير مستقر.
خرجتُ من غرفتي مسرعاً، فاجأني وجود بعض المسلحين داخل النزل يقومون بتفتيش الغرف، وأفواه بنادقهم مصوّبة نحو النزلاء، الأغلبية كانوا من جنسيات أوروبية، بسبب لهجتي العربية المكسرة، طلبوا مني التوجه إلى المرفأ، ذهبت مسرعاً دون أن أحمل شيئاً من أمتعتي. بدل المرفأ ذهبت نحو محطة القطار، كنت أختبئ خلف الجدران تارةً، وأتسلح بلهجتي "المكسرة" تارةً اخرى.
لم أستطع الوصول إلى المحطة، كانت بعض الأبنية قد تعرّضت للقصف، وكانت النيران تشتعل في أماكن مختلفة من المدينة، فيما نقاط التفتيش منتشرة في الكثير من الأحياء.
نادى عليّ أحد المسلحين بلهجة لم أفهمها، توجّهت بخوف نحوه، وبندقيته موجّهة نحوي، لم يسألني من أكون وماذا أفعل، اقتادني مباشرة ليحشرني عند حائط ممتلئ بالرجال والنساء من كل الأعمار.
كان الخوف وحده المسيطر على الشارع وعلى الملتصقين بالحائط، سمعت صوتاً مألوفاً يقول لي "لا تخف إنها مجرّد إجراءات"، التفت بطرف عيني، إنه أبو أحمد، الذي يعمل حمّالاً في أسواق حيفا، وكنت أعتمد عليه في نقل البضائع منذ ثلاث سنوات.
ابتسمت له رغم خوفي، ورغم تصبّب العرق مني، كأنها آخر ابتسامة أرسمها على وجهي. مرّ وقت طويل فيما نحن نسند الجدار بأجسادنا، ثم تم اقتيادنا إلى خارج المدينة وتم احتجاز بعض الرجال في الطريق، تحديداً عند مداخل الأزقة كانت تنتشر بعض الجثث المتناثرة، المضرجة بالدماء، والعديد من نقاط التفتيش العشوائية.
لما وصلنا إلى مدخل المدينة الشمالي تم تسليمنا إلى مجموعة أخرى من المسلحين، لتقوم بتفتيشنا مرة أخرى. فهمت لاحقاً أن المسلحين هؤلاء كانوا يخافون أعمال المقاومة التي تشن ضدهم، وكان يضعون أي إنسان موضع الشك.
امتدّت فترة احتجازنا على قارعة أحد الطرقات لساعات، ثم طلب منا المسلحون الذين يحتجزوننا أن نتوجه نحو عكا، كان عددنا أكثر من خمسين شخصاً، بيننا النساء والأطفال وعدد قليل من الرجال.
وصلنا إلى عكا بعد خمسة أيام من السير على الأقدام، وقد أنهكنا التعب وقلة الطعام. كانت العصابات اليهودية موجودة بين منطقة وأخرى، وكان صوت الرصاص لا يغيب عن مسامعنا، تارة نختبئ بين البساتين، وتارة أخرى بين البيوت التي هجرها أهلها قبل فترة قريبة.
وصلنا الى أطراف مدينة عكا، لم ندخلها بسبب الحصار المفروض عليها من قبل العصابات، انضم إلينا المزيد من الناس، أكملنا مسيرنا شمالاً، لم أكن أعرف وجهتنا، أخبرني صديقي أبو أحمد أن وجهتنا مدينة صيدا الساحلية، وفق ما سمع من بعض الأشخاص الذين انضموا إلينا مؤخراً.
عادت بي الذاكرة مرة أخرى إلى النزوح الأول، عندما كنت مع أهلي وكنت قد بلغت من العمر العشر سنوات أو أكثر بقليل، وقد قيل لنا يومها أننا سنعود عندما تنتهي الحرب، وكنت أحلم دائماً بتلك العودة.
بعد أقل من شهر من المسير وصلنا إلى صيدا، وفي الطريق كان أهالي القرى الساحلية يقدمون لنا المأوى والطعام، مات بعض الأشخاص الذي ساروا معنا بسبب المرض أو الحزن.
لقد غابت عن ذهني تفاصيل كثيرة من تلك الرحلة، كان اهتمامي منصبّاً حينها بشكل أوّلي على عائلتي في عنجر، وكنت أريد أن أخبر أهلي هناك أني ما زلت على قيد الحياة، وأني قادم إليهم، لكني كنت أريد أن أخبرهم أيضاً أني أعيش ونزحت مرة أخرى، وأن شعباً آخر شُرّد من أرضه، وتلقى وعداً بالعودة إلى دياره، وما زال يحلم بتلك العودة... وأنه حمل السلاح ليحقق حلمه.
* كاتب وتشكيلي لبناني، والنص من نتاج ورشات مشروع "جذور عصية الإقتلاع -مائة عام على وعد بلفور 1917-2017" الذي نظم في لبنان خلال عام 2017.