وللمساكين بالندى ولع!

18 أكتوبر 2019
+ الخط -
في حي بولاق، ساقت الأقدار شابًا معدمًا يومًا إلى إحدى المقاهي، في الركن يجلس رجلٌ يضرب بيديه ورجليه، ويترنم على وقع كلمات يلوكها، يردد كلماتٍ محاولًا أن يستجلب ما يناسبها، يقول ويرتفع صوته دون أن ينتبه (والله تستاهل يا قلبي)، يكررها ويبدو أن الشعر مستعصٍ عليه.

تقدَّم منه الشاب وببرود مطلق نظر في وجه الجالس وقال: كمِّلها! (والله تستاهل يا قلبي/ ليه تميل ما كنت خالي/ أنتَ أسباب كل كربي/ أنتَ أسباب ما جرى لي).

انتفض الجالس وأمسك بتلابيب الشاب، وانهال على رأسه ووجهه تقبيلًا وتكريمًا، وبعد السلام والتحية تعارفا؛ فإذا بالجالس المتورط بحثًا عن الكلمات يقال له "سيد درويش"، والشاب المنقذ "عبد الحميد الديب"؛ ليلتقي درويش بالشاعر البائس ويبدو أن الحظ قد ابتسم له، بعدما أذاقه من أصناف العذاب، ومن يدري؟!

لكن خيطًا قد جمع الرجلين، خيط لا يختلف عن خيط الصدفة الذي دبر لقاءهما الأول، خيط تستبينه في نهايتهما الصادمة، لكن لحياتهما كثير من التباين بعيدًا عن خط النهاية؛ فماذا واجه ابن كمشيش قبل لقائه بسيد درويش؟ وكيف تلاعبت به الدنيا وقلبت له ظهر المجنّ؟!


في عقده الثالث، أقبل عبد الحميد الديب من كمشيش التابعة لمحافظة المنوفية، وقصد القاهرة العامرة ليدرس بكلية دار العلوم، يحمل بين جنبيه غصة وجوى؛ فوالده تاجر القطن المعروف بين أبناء بلدته قد أعلن إفلاسه، وانمحق مصدر دخله بعدما ارتفع به الحظ مدة، وينتقل الرجل إلى العمل في الجزارة الموسمية.

ماذا جرى لي؟ اجتمعت فيّ خصلة ذميمة من خصال الشعراء، ولأكن أكثر دقة وتحديدًا؛ فإني أخذتها عن ابن الرومي، والغريب أني لم أقرأ لابن الرومي الكثير، لكن يبدو أنها "لعنة ابن الرومي" وقد أنشبت أظفارها بأطرافي، وإني هالكٌ لا محالة! إخالني النسخة العربية للإنكليزي "جون كيتس"؛ فكلانا شاعر، وظروفي تطابق ظروفه مطابقة الحافر للحافر، اجتمعنا على قِصر القامة ودمامة الوجه والمظهر الرث، لكن ثمة فروق بيني وبينه؛ فإنه طبيب بينما أنا متسكع تعيس، وهو مصاب بذات الرئة (السُّل)، بينما أنا مصاب بأمراض أخرى.. آه من الدنيا وما تلقيه في وجهي من حممها وبراكينها!

يظنون بي ظن السوء، وما أكثر الجلادين من حولنا! عملت مدرسًا للغة العربية والتربية الإسلامية في مدرسة بكفر الدوار، لكن طموحي أكبر من كفر الدوار، لا أقول من المدرسة فحسب، ولذلك لم أكمل بين أسوار المدرسة أكثر من ستة أشهر، ثم أفسحوا لي مكانًا للعمل في مدرسة تتبع مجلس مديرية الفيوم، وكأنني ناقمٌ على كفر الدوار ليتحفوني بوظيفة في الفيوم، ومن الفيوم إلى أسيوط في مدرسة ثالثة، لكنني لن أمضي حياتي أدرِّس للطلاب.

أبحث عن مكان تحت الأضواء، الأضواء عندي هي القاهرة ويحلو لي أن أسميها "عش الذكريات"، ويبدو أن لقائي الليلة بفنان الشعب سينقلني نقلة نوعية، هذه النقلة التي أبحث عنها من سنوات، وأبلغ دليل على ذلك أنني -ولأول مرة منذ جئت القاهرة- سأنام في غرفة أغلق بابها عليَّ! طوال المدة الماضية أنام في الحدائق، أتحين الفرص لأنام في المساجد وفي المقاهي، وربما يسمح لي صديق بالمبيت في منزله، لكنني الآن وبفضل ما أتحفني به سيد درويش سأحجز غرفة في فندق متواضع، أو استأجر غرفة حتى حين، ترى هل يبتسم لي القدر؟ هل تضحك لي الدنيا وأتزوج؟ وهل أمتلك بيتًا وأسرة؟ أم تضن الأقدار على أمثالي بأبسط حقوقهم؟!

لن أفكر الآن في ذلك، يكفيني أنني سأنام ملء جفوني عن شواردها ولو لليلة واحدة، وبعدها ليقضي الله أمرًا كان مفعولا. لأذهب إلى قصر الشوق، إنني أعشق حي الحسين وستكون غرفتي هناك، أعلم أنها غرفة -زي الرغيف الحاف.. بلا غموس- لكن لا بأس، وهذا أفضل من العدم، غرفة كل ما فيها الحوائط والأرض والسقف! لا فراش ولا دثار، أفترش أرضها وألتحف الهواء ووسادتي فيها يدي أو معطفي!

مضى على وجودي في هذه الغرفة شهر بطوله، لا أراها تزيد عن الشارع في شيء، وأنا في حاجة لما أدفعه لصاحبها؛ فما أدفعه له يمكنني أن أقضي به لبانتي من خبز وجبن، لا أبحث عن الفخامة والفخفخة، على قدر اللحاف مددت رجلي، لا أقل ولا أكثر، وسأعود للشارع لا مفر من ذلك! ولأكتب هذين البيتين في ذكرى هذه الغرفة قبل أن أغادرها (أفي غرفتي يا ربّ أم أنا في لحدي/ ألا شدَّ ما ألقى من الزمن الوغد/ أراني بها كلَّ الأثاث فمعطفي/ وسادٌ لرأسي أو وقاءٌ من البرد).

لو لم يختطف الموت -أو المخدرات والموت معًا- حياة سيد درويش، ما تركت هذه الغرفة وإن تساوت بالشارع، ولعملت معه بكل ما أملك من موهبة شعرية، ولاشتريت فيها ما يلزمني ويسعفني عند الحاجة، لكن المخدرات قد باغتت درويش وقتلته، المخدرات عينها التي لجأت إليها لأهرب من مشاكلي وواقعي المؤسف. لقد عرفت حانة الحاخام في حارة اليهود، وقضيت بها وقتًا طويلًا، وأغلب ظني أن حفاوة صاحب الحانة بي مصطنعة، لا حبًّا في شخصي فهذا من تاسع المستحيلات إن لم يكن من رابعها، وإنما لأن كثيرين قصدوا حانته للاقتراب مني ومناوشتي شعريًا، والتزمت ابنة صاحب الحانة بخدمتي.


آه من ابنة صاحب الحانة! فتاة توقظ الرجولة في الأجساد المحنطة، قد لا يراها بعضهم كذلك، لكنني لم أعرف النساء ولم أتزوج، ويقولون إن كلَّ شيءٍ على الجوع طيب، وفي ابنة صاحب الحانة أقول (ألا جنبوني لحظها وقوامها/ وثديًا وراء الثوبِ يقظان يحلم/ تُقدِّم لي كأسَ وترنو مدِّلةً/ فمن أيِّ خمريها أُجَنُّ وألهَمُ). أحبَّ جون كيتس "فاني براون"، عشقها بجنون وإن لم تبادله الحب، لكنها أسدت إليه بعد موته خدمةً لا تُنسى، أما أنا فمن تلك التي أحبتني؟ ابنة صاحب الحانة؟ أمتلك الفتاة بائعة الكوكايين؟ فالأولى تقدم لي الخمر، والثانية تشفق عليَّ وتمرر لي بعض الكوكايين، إنهما تقتلانني لا أكثر.

من منهما تقدم لي ما قدمته فاني براون لجون كيتس بعدما قضى؟ لقد نشرت أشعاره بعد موته بعشرين سنة؛ فمن يجمع أشعاري وينشرها؟ إن الشيخ الباقوري وعد بنشرها لكن وحسب ما بلغني لم تُنشر قصائدي حتى أكتوبر/تشرين الأول 2019، وأغلب الظن أن الشيخ الباقوري لن ينشرها إلى يوم الدين. تحول بيت جون كيتس إلى مزار لعشاق شعره، وأطلق عليه "كيتس جروف" بعدما كان معروفًا قبل ذلك باسم "هامبسترهيث"، بينما لا بيت لي من الأساس!

إن من ينعتونني بالسكير المدمن لم يخوضوا معركتي، إنهم من المنظرين السمجين (يقولون سكيرٌ وما شربوا كأسي/ وما شربوا البلوى كما شربت نفسي/ إذا قلت قديسٌ يقولون سادرٌ/ وإن قلت حيٌ يحملوني إلى رمسي). لقد عاقرت الخمر عقابًا لنفسي، وهروبًا من الواقع النازف الأليم، لم أرد معاقبة المجتمع، أردت أن يقتصر عقابي على ذاتي، وقلت (هاتِ المُدامَ فدين الله تيسير/ وأسعد النَّاس مخدورٌ ومخمور/ هاتِ المُدامَ ولا تعرض لمتربتي/ مهما غلا العيش لم تغلُ القوارير/ هاتِ المُدامَ الصبوح البِكر يحملها/ إليك أخنث ساجي الطرف مغرور/ فديتها حانة الحاخام هادئةً/سكرى يعربد فيها الحُسنُ والنور).

وفي سنة 1943، وعدني معالي الوزير إبراهيم دسوقي باشا أباظة بوظيفة، لست من أهل النفوذ ولا الوجاهة، لقد رتب القدر اللقاء مثلما جرى مع سيد درويش، لقيت درويش بمقهى بولاق، ولقيت الوزير في رمضان الماضي بمقهى الفيشاوي في حي الحسين. وافقت على الوظيفة حتى قبل أن أعرف مهام عملي، فما حيلة للمضطر إلا القبول، ويتعلق الغريق بقشة وإن لم تشفع ولا تنفع، إنه حبُّ الحياة. أيُّ حبٍّ للحياة يكون ذلك؟ ماذا رأيت منها لأحبها؟ ولماذا أحبُّها وهي تقطع أوصالي وتُقلِّع أوتادي؟!

قالتها أمي مرارًا "يا ابني المنحوس منحوس!"، قالتها وصدقت، وضحكت ضحكًا مريرًا عندما استلمت مهام عملي في الوزارة، وزارة الشؤون الاجتماعية، الوزير دسوقي باشا أباظة ومدير مكتبه الأديب والدبلوماسي سابقًا يحيى حقي، والوظيفة التي خلعوها عليَّ براتب خمسة جنيهات، ولكن المنحوس منحوس فعلًا؛ فإن العمل الذي رتبوه لي لم يُلحق به لا مكتب ولا كرسي! وكتبت للوزير (بالأمس كنت مشرَّدًا أهليًا/ واليوم صِرت مشرَّدًا رسميًا).

ربما لو علموا أن روحي ستفارقهم بعد ثلاثة أشهر فحسب من احتلال الوظيفة الجديدة بهذه الوزارة، ربما -ولست متيقنًا- لأعطوني الوظيفة قبل مدة أطول قليلًا، وربما ضنوا بها عليَّ فقالوا "لو لقيت أعمى اضربه ودِبه، وخد عشاه من عبه، ما أنتاش أرحم به من ربه"، هذا منطق كثيرين في هذا العالم، لا أتجنى عليهم ولا أبالغ. قبل سنة من موته، لفظ جون كيتس دمًا من فيه، وقال "إن بقعة الدم وثيقة الوفاة"، وإنني أرى أن هذه الوظيفة والراتب المنتظم وثيقة وفاتي؛ فإني لم أعهد هذا السخاء من الدنيا على الإطلاق.

وهذا صحافي معروف وشاعر كذلك، رآني يومًا في بعض شوارع القاهرة أفترش الرصيف، ثم قرر أن يساعدني على طريقته الخاصة، أو أن يدوسني بنعله على طريقته نفسها؛ فكتب في عني في الأهرام مقالًا مطولًا عنوانه "الشاعر الشمَّام". عندما كفر النقاد بموهبة جون كيتس، آمن به أصدقاؤه وحفزوه لمواصلة الكتابة، لم يكتب أحدهم ليفضحه على صفحات الجرائد وفي التجمعات الأدبية والصالونات الثقافية.

هذه بعض نفثاتي الحارة والأماني العابرة، بثثتها القارئ بعدما جاوزت دنياه بما يزيد 75 سنة؛ فقد عشت ما بين (1898 – 1943)، والجميع يتمنى مستحيلًا ويرجو ممكنًا، ويأبى القدر إلا ما أذن به الرحمن، وللمساكين بالندى ولع.
دلالات