وعـد الكتابة

05 نوفمبر 2015
يؤسس القلق ملح الكتابة (Getty)
+ الخط -
لم تكن الكتابة نوعاً من الترف الفكري يوماً ما، أو الإقامةِ الآمنةِ التي توفر للإنسان العادي فرصَ التَّجردِ من متاعب وانشغالات الحياة اليومية، لذلك تكون في بداية الأمر أشبه بتمرين ضروري ينجزه متعلم ما في صباه، ثم سـرعان ما تصير انشغالا يوميا، بل هما مضاعفا يورث المبدع جنون الكتابة وهَوسَهَا، ومُغامرةَ اختبار أسئلتِها النّظريةِ، وبموجب ذلك، لا نستطيع أن نموقع ذاتنا خارج الكتابة، إذ لـو خُيِّر مبدعون كثر بينها وبين أشياء أخرى مادية، لاختاروا غوايتها، لأنها الكائن الوحيد الذي يحتمل خفة مزاجهم، وجنونهم، وكبرياءهم، وشغب الطفل الذي يسكنهم على نحو غريب، على هذا الأساس، تقيم الكتابةُ في روح هؤلاء، منها يتغذون ويستمدون طاقتهم نكاية بالحياة، تقاسمهم جبروت الحياة، بكل تجلياتها، بالإضافة إلى ذلك، لا نتصور حياتهم منقوصة من الكتابة، لأنها أوكسجين إضافي به يواجهون العالم بشتى تناقضاته، وينفلتُون من ضجيج الناس، والوجوه، والأمكنة، ويحَلِّقُون بعيدا كطائر يهوى المنافي، علما أن الكتابةَ تورّث حاسة مضاعفة، لا تستكين للأشياء في بساطتِها وسطحيتِها.


ويؤسس القلق ملح الكتابة، وبدونه لا يمكن كتابة نصوص بحجم أفق القارئ، هذه قناعة لا تغرب عن بال من يتخذون الكتابة بوصلة كشف فراغات الروح وهي تقيم تفاعلاتها مع مكونات واقعها، لأنه لا يمكن تصور فعل الكتابة غير قلق يقيم في الروح ويفعلُ فِعْلَهُ في الذات ككل، وإذا كان بعض المبدعين، ينهلُون من دواخل الذات ويتفاعلُون مع المحيط، فلأن ذلك هو الرهان، إذ ما جدوى الكتابة إذا لم تراهن على زعزعة الآخر ومسلماته، وتخلقُ عوالمَها المعلنةَ والسّرّيّةَ معا، عبر طرح السؤال الذي يظل مغيبا إما لأسباب أو لأخرى، ولعل غياب السؤال أو تغيّبه هو سر تخلف كثير من النصوص التي تتخذ من الكتابة جسرا لبناء متخيلها الجمالي والفني معا، فالكتابة التي لا تطرح السؤال هي كتابة خبرية، والخبر موكول للتاريخ وللمؤرخين وليس للمبدع (شاعرا أو قاصا)، والكاتب لا تتوقفُ مُهمّتهُ على الإخبار والسَّردِ المجَّانيّ والإيضاحِ، بل تكسير المرآة الكاشفة وخَلْقِ مَنَاخٍ من الجمالية والدّهشةِ، ولا يتحقق هذا كله إلا عبر الحفر في أنفاق الذات الكاتبة في انفعالها بالعالم المرئيِّ والمُضْمَرِ في وعينا ولاوعينا الفردي والجماعي.

إن الكاتب في الأوطان العربية عليه أن يعيش مغامرة الكتابة بتؤدةٍ وحميمية، مثلما عاشها كُتَّابٌ آخرون في حقب تاريخية منذورة للبحث والإضافة، وأن يحرض ذاته على استنبات شجيرات البوح داخل روحه وتشذيبها، وأن يتضاعف إيمانه بجدوى الكتابة في حياة حُبْلَى بالجبهات المناوئة للمحبة وللروح وللجمال، وأن يعيش التجربة بمحبة القديسين، منذورا لترصد نداءاتها الخفية، ومتلذذا بأمكنتها الملتوية، ومضاعفا إيمانه بأن الكتابة نهر الأعماق ولا كتابة لمن لا عُمْقَ له، وما تبقى على هذه الأرض يؤسسه شعراء يأتون بعدي على حد تعبير الألماني هولدرلين، ولكي يحقق وعد الكتابة يتوجب عليه تجديد ذاته باستمرار عبر تجديد زوايا مصاحبة مشروعه الكتابي بعيدا عن الوهم، الذي صار غاية الكثيرين من أنصاف الكُتّاب نتيجة تضخم المجاملات في أوساط التجمعات الثقافية والإبداعية، وتزايد الجوائز وقيمها المادية المغرية هنا وهناك، وتساهل كثير من دور النشر العربية في السنوات الأخيرة مع الأعمال المقدَّمَةِ للنشر تحت يافطة الإبداع، وهي أمور تناقض من حيث الجوهر وَعْدَ الكتابةِ باعتباره تمرينا مضنيا وشاقا، وقلقا يستوطن الذات الكاتبة منذ حبوها الأوّل إلى لحظة اختمار تجربتها ومشروعها وشيوعهما بين النخب المثقفة وعامة الناس.

(المغرب)
دلالات