وصية شهيد لم يمت بعد

13 يونيو 2014

أسير محرّر يرفع إصبعه في حافلة سجن إسرائيلي (أكتوبر/2011/Getty)

+ الخط -
لا يكتب الموتى رثاءً للأحياء.
كذلك كنت أفكر، رغماً عني، كلما كنت أصادف مقالةً أو خاطرة، يكيل صاحبها المديح المريح لصمود الأسرى الفلسطينيين الذين يخوضون إضرابا مفتوحاً عن الطعام في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ سبعة أسابيع كاملة.
ولطالما قرّرتُ الكتابة عمّا يحدث هناك خلف القضبان، ثم تراجعت، خشية من أن أقول كلاماً لا يليق كفاية بهؤلاء الذين لا يملكون غير الجوع سلاح مقاومة، فيمتشقونه، دونما تردد، ليخوضوا غمار المعركة حتى النهاية.
وبين النيّة والتردّد، ظلّت تراودني حكاية إنسانية رواها لي الأسير المحرر، جبر وشاح، منذ نحو خمسة عشر عاماً. قال الرجل، الذي كان قد تحرّر للتوّ من سجون الاحتلال، إنه، ومئات الأسرى الآخرين، خاضوا، عام 1992، إضراباً عن الطعام، استمر 19 يوماً، للمطالبة بحق احتضان أطفالهم، دقائق قليلة، حين يأتي هؤلاء لزيارتهم. ونجح الإضراب آنذاك في تحقيق هدفه، ثم.. "حين حلّ موعد الزيارة، حدث ما لن أنساه أبداً: أدخلوا إليّ ابنتي ذات السنوات الخمس، وإذ حملتها بين يدي، وأنا أكاد أطير فرحاً، فوجئت بها تنفجر صارخة باكية، ولم تهدأ إلا بعدما أعادها السجان إلى أمها وراء الشبك الحديدي. انتهت الزيارة، وبقيت طوال أسبوعين لاحقين، أضرب أخماساً بأسداس، بحثاً عن سبب بكائها، من دون جدوى.  تساءلتُ حينها بيني وبين نفسي: هل تصرّفتُ مع طفلتي بطريقة خاطئة؟ أتراها خافت مني، أو كرهتني، ولماذا؟ ثم حين جاءت زوجتي في الزيارة التالية، كشفت لي سر ما حدث. قالت إن حنين اعتادت على مدى سنوات رؤيتك خلف القضبان، وحين حملتها بين يديك ودرت بها، نظرت إلى الخارج، فرأت أن أمها وجدّتها قد صارتا وراء القضبان، ولم تتحمّل الصدمة، فصرخت وبكت حتى أخرجوها".
لماذا أقصُّ عليكم هذه الحكاية الآن؟ قد يسأل سائل، وأجيب: ربما لأني أحسّ ما أحسّته تلك الطفلة، أي أننا، أعني أنتم وأنا، مَن نقبع خلف القضبان، لا الأسرى المضربين عن الطعام بهدف إلغاء سياسة الاعتقال الإداري الموروثة من زمن الاستعمار البريطاني. وإمعاناً مني في الرغبة بترك هذه المساحة لرواية الأسرى عن أنفسهم، أعيد هنا نشر رسالة (وصية) كتبها الأسير سفيان جمجوم، أمس الخميس، ويحكي فيها بعض أحاسيسه، وهو يمر في برزخ الموت حياً، ورافعاً شعار الكرامة القائل: ماء وملح.
وصية الأسير سفيان جمجوم:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على عطائه في السرّاء والضرّاء.
الأهل والأحباب، زوجتي الغالية وأبنائي، وكل أبناء شعبي الفلسطيني في الداخل والشتات.
لم أتخيّل أن يأتي يومٌ أعدُّ فيه دقائق عمري ولحظاته، وأن أعيش في برزخٍ، وأنا على قيد الحياة، لكنَّ طريق الكرامة الذي مضينا به يدفعنا للعيش أعزاء، أو الموت شرفاء.
اليوم أكتب وصيتي، ويداي كقطعتي خشب، تحترقان بفعل هذا الموت الذي نمرّ به، ولكن قلبي يزداد يوماً بعد يومٍ، عزيمةً وصبراً، كأنه خارج جسدي. ما زلت إلى هذا اليوم من الإضراب، أنا وإخواني السجناء، نؤكد على صمودنا وصبرنا، وأننا ماضون في طريقٍ لا نعرف لنهايته، إلا النصر أو الموت بكرامة.
وقد صبرنا كثيراً على السجن المجحف بحقنا، السجن الإداري، لكننا اليوم رغم هزال أجسادنا، والأمراض التي تسرّبت لنا، وتعنّت وتعسّف مصلحة إدارة السجون بحقّنا، نقاوم بصدورٍ عارية وأمعاءٍ خاوية هذا المحتل الظالم، وتحالف هذا العالم الصامت معه.
إنني، يا زوجتي الغالية، وأبنائي الأحبة، أفتقدكم بشدة، وأعرف أنني ملاقيكم يوماً، وقد رفعت رأسكم عالياً بصمودي وتحديّ للسجان، أو أن نلتقي غداً في الجنان، وقد حقّقتُ ما أصبو إليه في الحياة، وهو الموت بكرامة.
في الختام.. أوصي شعبي العظيم، الذي رسخ كالجبل لأكثر من 60 عاماً، أن يعاود اللحمة والتكاتف لنصرة الأسرى، وأن يضعنا في قلبه وصدره، ليرانا العالم، ونحن في غيابات الجُبّ. وأوصي أمةً، تُدعى بالإسلامية، بأن تنظر بعينها وقلبها، لرجالٍ يعدّون أيامهم الأخيرة في السجون، ويموتون لانتزاع أبسط حقوقهم في الحياة. وأوصيكم جميعاً بتقوى الله، وأن تتقوا الله فينا، وتدعوا لنا بالصبر والثبات والتمكين، وإلا فالرحمة لأرواحنا وأرواحكم.
EA99C928-BF02-4C77-80D6-9BE56F332FDE
ماجد عبد الهادي

صحفي وكاتب فلسطيني