في بيت مرسي

19 يونيو 2019
+ الخط -
لم أعد أذكر المدة التي استغرقها قطع المسافة بين مدينتي المنصورة، عاصمة محافظة الدقهلية، والزقازيق، عاصمة محافظة الشرقية، في ذلك اليوم القائظ من صيف عام 2012، وقد صارت أحداثه التاريخية مجرّد ذكريات بعيدة، وملتبسةً بالحزن والأسى، غير أني لن أنسى، من تفاصيل تلك الرحلة، إحساساً طاغياً ببطء الزمن، استبدّ بأعصابي، على طول الطرق الزراعية البائسة التي اخترت أن أسلكها وفريق قناة الجزيرة، وسط بساتين دلتا النيل، كي نصل، في أقصر وقت ممكن، إلى منزل ذوي الرجل الذي أعلن من القاهرة فوزُه بانتخابات الرئاسة المصرية.
كنت أعرف أني ذاهبٌ إلى مكان لا يشبه "الزمالك" أو "غاردن سيتي" أو أي حي أرستقراطي من الأحياء التي عرفناها في مسلسلات الدراما المصرية، وكنت أتمسّك، كما ينبغي لصحافي غير مصري، بأن لا تخرج أي كلمةٍ أكتبها، أو أقولها، عن مبدأ الوقوف على مسافة واحدة من المرشحيْن المتنافسيْن، الأستاذ الجامعي محمد مرسي، والجنرال المتقاعد أحمد شفيق، على الرغم من حماستي، التي ما كان من الممكن إخفاؤها، لهذا التحول الديمقراطي الذي رأيته يتخلق أمام عينيَّ، في أكبر بلد عربي. بعد مرور سنة ونصف السنة على ثورة "25 يناير".
لكن شيئاً ما، إنسانياً، سيفاجئني، ويترك أثره على موقفي، أعترف، بمجرّد أن حطت قدماي على أرض قرية العدوة التي تبعد تسعة كيلومترات عن الزقازيق؛ مظاهر الفقر تفيض من الحارات والبيوت، كما ترتسم على الوجوه، مختلطة ببشائر الفرح بالخبر الكبير. وفي المنزل البسيط، حيث ولد الرئيس المنتخب، ونشأ، وترعرع، تكاد الجدران تحكي سيرةً مشرّفة لقروي مصري بسيط، اجتهد، وتفوق منذ طفولته، حتى صار أستاذاً في جامعة جنوب كاليفورنيا الأميركية، ثم لم تحل مكانته الأكاديمية، بعدما عاد إلى بلاده، دون أن يقف في وجه الظلم، ويتعرّض للملاحقة والاعتقال، بتهمة انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين.
"أنا سعيدة موت، وفرحانة، والدنيا مش سايعاني، عشان هو من بلدنا"، قالت لي فتاة في مقتبل العمر، بشغفٍ طفوليٍّ يفوق كل وصف. ومثلُها بَسَط آخرون، شباباً وشيوخاً، شعورهم بالتفاؤل، وإن بكلمات مختلفة، ومعانٍ أعمق "عشان هو عارف ربنا وحيتقي الله فينا وفي الشعب المصري كله"، فأصابوني جميعاً بعدوى حُبٍ، أو تعاطف، جعلتني أحسّ معهم بأن هذا الرجل الذي صعد من القرية الفقيرة إلى القصر الرئاسي، مروراً بسجون الطغاة، يمثلني أيضاً، أنا الفلسطيني العربي الذي يحمل في روحه ندوباً لا تمحي، من عهود حكم الجنرالات، وأبناء الذوات، وغدرهم.
هل أخطأ، من بعد، وكان أبسط، وربما، أكثر طيبةً، مما ينبغي أن يكون عليه رئيسُ دولةٍ بحجم مصر، وفي هذه المنطقة المضطربة، من العالم؟ نعم، ولكنه ليس وحده، من ظنّ، أو توهم أن العسكر "رجّالة زي الدهب" ثم لم يكتشف حقيقة أنهم أشبه بالصدأ، إلا في وقتٍ متأخر، وبعد فوات الأوان، أي حين غدروا به، ليعيدوه من قصر الرئاسة إلى زنازين السجون، في انقلابٍ مفضوح، على شرعية انتخابه رئيساً، وعلى مسار الديمقراطية في بلاده، كما على مواقف، لا تُنسى، اتخذها انتصاراً للشعب الفلسطيني، ضد العدوان الإسرائيلي، وكذا إلى جانب الثورة السورية في مواجهة الديكتاتورية المتوحشة.
أخيراً، يموت مرسي، في قفص الاتهام، وينقلونه إلى مدافن الموتى، تحت جنح الظلام، فتتحدّث بيانات النيابة العامة، وتقارير "الأذرع الإعلامية" لنظام الانقلاب، عن وفاته، مع إغفال صفته، لتعكس ما يستدعي مزيداً من الشكّ في أنهم تخلصوا منه. كان بقاؤه على قيد الحياة، وعلى الرغم من وجوده في السجن، سبباً كافياً لينغّص على عبد الفتاح السيسي شعوره بشرعية حكمه، وليذكّره دوماً، بأن لهذي البلاد رئيساً آخر، لم يمت، ولم يسقط في الانتخابات، ولم يتنازل عن منصبه.
ألا في ذلك، فليتفكّر العرب الذين مازالوا يُحسنون الظن بالعسكر، أو يتراءى لهم، في بلدانٍ سوى مصر، بأن جنرالاتهم مختلفون.
EA99C928-BF02-4C77-80D6-9BE56F332FDE
ماجد عبد الهادي

صحفي وكاتب فلسطيني