وصفة عيدي أمين

05 ابريل 2016
الفنان الأميركي أليس كنت ستودارد (Getty)
+ الخط -
اجتمع "قاهر الإمبراطورية البريطانية" مع القادة العسكريين السبعة الممسكين بزمام الأمور في جمهورية أوغندا. 
تكبر سلطته فتضيق عيناه في تلازم لم يفقه معناه. ضاق صدره حين نما إلى علمه أن شعبه يُطلق عليه لقب "جزّار أفريقيا"، فدخل إلى مقر قيادة الجيش عابس الوجه، وهو يرج الأرض بوقع أقدامه متحدياً ومتباهياً بقوته البدنية الهائلة.

الأخدودان اللذان يفصلان الأنف عن الخدين ازدادا غورًا، فبدا أقرب شبهاً بالأسد أكثر من أي وقت مضى.

جثم "الرئيس إلى الأبد" على كرسيه المزخرف المرتفع عن الكراسي الأخرى وهو واجم، وراح يحدق مشمئزاً في أزلامه وهو يكاد يفترسهم بنظراته التي تذيب الحجر. انتاب جميعهم الرعب، ومن كان مصاباً بمرض السكري فقد بات يتعذب محاولاً السيطرة على نفسه من شدة إلحاح البول. ليس سراً أن الكل يحذر من غضبته، ومن تقلبات مزاجه التي قد تعني في ساعة مشؤومة النهاية المحتومة.
تكلم "صاحب السعادة" وهو يضرب الطاولة بعصا قصيرة أثناء خطابه: 
- لقد عرفت من مصادري الخاصة السرية أن هناك تعبئة تجري ضدي لقلب نظام الحكم.

كانت هذه إحدى أساليبه الماكرة في إيهامهم بأن لديه جهازاً سرياً، لا يعلمون عنه شيئاً، مهمته التجسس عليهم. هم من ناحيتهم يعرفون أن هذا الجهاز السري المزعوم ليس سوى حفنة من كهنة الصنم (كاتوندا) يستعين القصر بخدماتهم في سرية تامة.

تجرأ على كسر الصمت المأتمي، رجل طويل اليدين قصير القدمين – أمه من قبيلة الأقزام التي تستوطن الغابة الاستوائية - يشغل منصب قائد الشرطة العسكرية:
- هل لدى الفيلد مارشال معلومات محددة تقودنا إلى القبض على أعداء الوطن؟

أطرق فخامته مُفكراً، وراح يعض طرف العصا ويُنشبُ فيها أنيابه الحادة من دون رحمة. أرسل قائد سلاح الجو الأقرع (بيوني ماغوغو) طرفه إلى صديقه المقرّب القابع في مواجهته، ونطق اسم الكاهن من دون صوت. جاء في ظنه أن أحداً لن ينتبه إلى فعلته بما أنه يمضغ اللبان محركاً شفتيه طوال الوقت.

أومأ رئيس هيئة الأركان الجنرال (دومينيك كامنتو) برأسه إيماءة طفيفة ممتناً على المعلومة.
فجأة أرعد فخامته وقد كف عن شروده:
- الانقلابيون ليسوا عشرة ولا مائة ولا ألفاً.. إنهم في الكثرة كعدد الحصى.

أرسل رئيس جهاز المخابرات الجنرال (ريتشارد كيوانوكا) كحّة خفيفة تمهّد لحديثه، تشبه عربة الحراسة المدرعة التي تتقدم موكبه في شوارع كمبالا:
- أقترح أن نشكل فريقاً من أمهر الرماة يتسلّل إلى تنزانيا لاغتيال الخائن أبولو أوبوبوتي. التقارير التي وصلتنا تشير إلى أنه يقوم بنشاطات مشبوهة ضدّ مصلحة الوطن.

حدجه "الحاج الدكتور" بنظرة يتطاير منها اللهب ووجّه إليه سبابته مهدداً:
- ريتشارد.. إياك أن تذكر هذا الاسم مرة أخرى.. ومن اليوم فصاعداً يمنع منعاً باتاً ذكر اسم الرئيس السابق كتابياً أو شفاهياً.

حنا الجنرال (ريتشارد) رأسه حتى كاد يلامس الطاولة متذللاً لمولاه.
تابع فخامته وعيناه تنظران إلى خيالات غير سارة تجتاح ذهنه رغماً عنه:
- حشد من الأفندية سوف يقومون بتعبئة شعبي ضدي.
هز الرجال السبعة رؤوسهم موافقين، وبدا عليهم التلهّف لمعرفة المزيد:
- أعداء الوطن هم بريطانيون بجلد أوغندي.
أفلتتْ ابتسامة ساخرة من وزير الدفاع الجنرال (هنري سيستو) فضبطه القائد الأعلى للقوات المسلحة مُتلبساً، وصوّب إليه نظرة حاقدة كطلقة من مسدس، شعر بها الوزير تثقب فؤاده وتكاد توقفه عن النبض، فسارع إلى تخليص نفسه بدهاء: 
- يا آخر ملوك اسكتلندا.. عندي فكرة بارعة لنخل الأوغنديين وتمييز الصالح من الطالح.
سكن غضب فخامته حين ناداه الوزير باللقب الأحب إلى قلبه وأصغى إليه باهتمام وهو يواصل حديثه:
- أقترح أن يتولى الجنرال ريتشارد فحص أدبار المعارضين السياسيين والمشبوهين الحزبيين والمرتبطين بمنظمات أجنبية والمتعلمين الذين درسوا في الخارج فحصاً ميكانيكياً على يد خبراء. ومن وجدت ماكينته سليمة، فهذا يعني أنه أوغندي أوغندي ويطلق سراحه، وأما الذي يوجد تلاعب في ماكينته فهذا ليس أوغندياً ولن يكون. إنه بريطاني بجلد أوغندي ويتوجب إعدامه.

رد رئيس جهاز المخابرات على اقتراح زميله بطريقة جلفة، واستخدم إشارة غير لائقة، وبسرعة تطورت الأمور بينهما إلى ملاسنة حامية.

تدخل فخامته وسحنته تتلوّن من الغضب مُعاوداً الضرب بعصاه على الطاولة بصورة مزعجة تنبئ عن الكرب الذي يتفاقم بداخله:
- التعليقات الجانبية ممنوعة. إنني أُحذركم من ثورة سوف تغرق الوطن في الدم. وإذا لم نتدارك الأمور منذ الآن، فإن مصيرنا جميعاً هو القتل.

صمت الجنرالات وكفوا عن الحركة، وكأن بيضة نيئة انكسرت على البلاط. أشعل فخامته سيجارة وحبس نَفَسَه فترة طويلة، ثم زفر الدخان ببطء وقد احمرّت عيناه:
- أنتم حفنة من الأغبياء ولا ترون أبعد من أنوفكم.
تغيّر وجه الجنرال (فرانك كاتومبا)، قائد سلاح المدرعات، وقد بدا له أن كلمات السيد الرئيس قد أهانته شخصياً: 
- بماذا تأمرنا فخامتك؟
تنهّد فخامته ونحى عصا الماريشالية جانباً:
- أخرجوا دفاتركم واكتبوا.

كفّ الرجال السمان عن جلستهم المسترخية، وهبّوا إلى أقلامهم ودفاترهم ليدوّنوا. كان الفضول يقفز من عيونهم كجيوش من الدبابير. زمّ فخامته شفتيه وضيّق عينيه حتى بدتا كإبرتين، وأعطى نفسه مهلة للتفكير، ثم مال بجذعه للأمام:
- لا تسمحوا لأحد بأن ينجح ويُحقق شعبية بين الناس.. ابحثوا عن الناجحين ودمروهم.. ابحثوا عنهم بين المدنيين والعسكريين.. افتحوا عيونكم على المثقفين، الصحافيين، الرياضيين، الأطباء، المهندسين، المحامين، العمال، الموظفين، المزارعين، المكنسين، المعوقين، الشحاذين، المجانين، واستثنوا فقط التجار والأميين والطباخين.

أخذ فخامته استراحة لاهث الأنفاس وكأنما ركض لمسافة طويلة. أجال بصره بينهم لعلّه يقبض على طيف ابتسامة غادرة أو عضلة تختلج خلسة في وجوههم فلم يمكنه ذلك. كلهم يعلمون أنه قد بدأ حياته طباخاً، وهو تعمّد تذكيرهم بماضيه ليختبر ردة فعلهم.. كانت حيلة شيطانية لكشف الأقنعة لم تؤتِ ثمارها.

رسم الجنرال (أفرايم كالاندا)، قائد قوات الطوارئ، علامة استفهام على دفتره، ولكز جاره بمرفقه. توقف قائد سلاح الجو الأقرع عن مضغ اللبان ونظر في دفتر زميله، ثم كتب فيه "ويسيجيي". وكان هذا اسم الكاهن الذي تسبّب لهم في كل هذا العناء.

راقبهم صاحب الفخامة وهم يكتبون تعليماته. كان يُقلّب البصر فيهم بامتعاض، إذ لم يكن واثقاً من إدراكهم بوضوح لجسامة الخطر الذي يُحدق بهم. فعزم في نفسه أن يُعدم واحداً منهم.
رمى السيجارة على السجادة الفاخرة ودعكها بقدمه، وتابع بنبرة خفيضة تآمرية:
- ابحثوا عنهم في كل شبر من بلادي.. لا تعتقلوهم ولا تعذبوهم.. يكفي أن تسلّطوا عليهم الفاشلين الذين تمتلئ نفوسهم حسداً وغيرة وكراهية للناجحين، وهم سيتكفلون بالقضاء عليهم خيراً منّا. وإذا تمكن واحد من الإفلات من مستنقع الفاشلين فعليكم في هذه الحالة أن تتدخلوا.

قال قائد الشرطة العسكرية الجنرال (محمد أفولا)، الذي يدير ثروات البلاد، من وراء الستار:
- نقتله.
أسفر وجه فخامته عن ابتسامة معوجة عصبية:
- هكذا كانوا يفعلون في الأزمنة القديمة ولم يُفلحوا.. أنا عندي حيلة أفضل!

اختُتم الاجتماع بإعدام الجنرال الأقرع (بيوني ماغوغو)، قائد سلاح الجو، برصاصة في الرأس. برر فخامة الرئيس تصفيته بكراهيته للذين يمضغون اللبان، وأنه يرى فيهم ميولاً للتخنّث.
المساهمون