أخيراً، قررت ما سيكون وشماً على باطن ساعدي الأيسر. الحروف بالترتيب الآتي:
ا ل م ك ر و ي ب ض ج
ن ع ق س غ ص ه ح
من ثمّ:
ط ظ ف خ
د ر ز
ث ش
فكّرت أن إضافة قوس على يسار الحروف يمكن أن يجعل الوشم أجمل، فالقوس إيحاءٌ بالدائرة. نبّهني أحدهم إلى "عجئة الوشم" فتراجعت عن الأمر.
قبل عامَين تقريباً، رسمت وشوماً كثيرة في مخيّلتي، قبل أن أستقر على وشم الحروف. ومن بين الوشوم التي تخليت عنها بعدما رسمتها تخيّلاً، جُمل وخطوط وأشكال. أخذت مسألة الوشم على محمل الجد، كما ينبغي أن نفعل حين نقرر اختيار أمر سيرافقنا لما تبقى من حياتنا، وسيكون جزءاً منّا بهذا المعنى.
اهتممت لدرجة الهوس بالمسألة، ولم أكن أعي أن وراء هوسي ضرورة وحاجة لا تتعلقان بي، بل بالعالم.
تركت بلدي قبل ثلاثة أعوام، بسبب حرب تجري هناك. منذ ذلك الحين، لا تكف كلمات جديدة عن التدفق على قاموسي الشخصي، كان أكثرها غرابة كلمة "لجوء".
لم أستطع، ولا للحظة، أن أحيا ما يفترض أن تثيره الكلمة من أحاسيس. سبّب لي الأمر مشاكل كثيرة، إذ إن المعنى الذي تحمله الكلمة غامض إلى الدرجة التي لا أستطيع معها تبيّنه. ربما لست وحيداً في هذا الأمر، على اعتبار أن جميع من يتركون بلادهم بسبب الحرب لا يميّزون وجودهم الجديد بكلمة "لجوء"، فهم لا يمتلكون الحق بإطلاق تسمية على ما يصف أوضاعهم.
للكلمة إيحاءٌ قويٌ بخسارة يستحيل تعويضها، وإن كان هذا حقيقياً بالفعل. ومن يطلقون التسميات كي يتعرّفوا على الأشياء من الزاوية التي تريحهم، لا يعرفون ما الذي يجعلهم يطلقون هذه الكلمة/ التسمية. وهذا أسوأ ما في الأمر.
في اللحظة التي اصطدمت بها بمعرفتي بوجود كلمات لا تثير فيّ أيّ أحاسيس أو تثير فيّ أسئلة غريبة، صار العالم مشكلتي. الأمر يتعلّق بسوء تواصل بيني وبينه، عبر كلماته المتعارف عليها بصفتها تعبيراً عن مواقف تثير الانفعالات، كما تفعل كلمة لجوء.
في مثل هذه المواقف نلجأ إلى إعادة النظر بحياتنا كلها. وبدأ الأمر بالنسبة إليّ، بسؤال لا معنى له حول عدد الكلمات التي لا تثير بالنفس الأحاسيس التي تثيرها بالمعاني العامة، لينتهي الأمر بسؤال واحد له إجابة واحدة. وهذه الإجابة الواحدة هي ما سيستحق أن يوشم على باطن الساعد الأيسر.
كانت الحرب في بلدي قد نشبت بعدما ظن أكثرنا أن بالإمكان تغيير العالم، عالمنا. كلمة مارست سحرها: الحرية.
بين سوء فهمَين كبيرَين جداً، بدءاً بـ"الحرية" وانتهاءً بـ"اللجوء"، يوجد عالم كامل يحتاج إلى تغيير شامل، وإلى أن يتحقق ذلك، لن يكون ثمة حياة ممتعة إلا مع وشم الحروف، بالترتيب السابق، على باطن الساعد الأيسر. الأمر الذي أتممته قبل يومَين.