في الرسالة الشهيرة، التي شغلت النقّاد اليساريين زمناً طويلاً، من فردريك أنجلس إلى هاركنس، يوضح أن بلزاك عاش تناقضاً خطيراً بين عواطفه الطبقية الشخصية وآرائه السياسية، التي كان يؤيد فيها الملكية في فرنسا، ويناصر آل بوربون الذين وصِفوا بالطغيان، ضد خصومهم الجمهوريين، وأن هذه العواطف، والكلام هنا لأنجلس، لم تمنعه من السير ضدها في أعماله الفنية، مجسداً ما سماه: انتصار الواقعية كطريقة فنية على الرأي السياسي.
ولعل أنجلس، هنا، يريد أن يقول إن الصدق الفني، والإخلاص لحقيقة الحياة الواقعية، ينتصران لدى الكاتب على موقفه السياسي الذي تحكمه عوامل كثيرة، قد لا يكون صدق الانتماء واحداً منها.
وفي التاريخ الأدبي دافع اليسار دائماً، دون أن يكون مخطئاً تماماً في الحقيقة، عن هذه الفكرة التي يمكن تتبعها لدى العشرات من الكتّاب الذين حفلت يومياتهم بالتناقضات، وامتلأ إبداعهم بالصدق. غير أن الأمر لم يأخذ دائما شكل الدفاع، أو التسويغ، لهذا التناقض، كما حدث لدى أنجلس، ولدى جورج لوكاتش من بعد، في كتابه "دراسات في الواقعية ".
وخاصة حين اتخذت تلك التناقضات شكل الولاء السياسي الوقح، أو التأييد الفظ لأنظمة طغيانية تسببت بالكثير من الدمار، أو القمع، ومناهضة الحريات. بل أخذ يدين ذلك المنحى المريب الذي يمكن اعتباره عطباً بنيوياً في شخصية الكاتب.
وفي هذا السياق برز من يندد بمواقف الكتّاب التي تتسم بانعدام الأخلاق، والحس الإنساني، أو تلوم الكاتب وتؤنبه، بسبب تهاونه تجاه ذاته المبدعة، التي يعرضها في أسواق السياسيين.
أذكر أن جملة شهيرة انتشرت شفوياً في الوسط المثقف السوري البعيد عن مقاعد السلطة، تقول أو تسأل الكاتب المرتمي في حضنها: هل تعرف من هو وزير الداخلية في زمن شكسبير؟
هذا هو السؤال الذي يواجه به الكتّاب الذين يتملقون السلطة السياسية في أي بلد، في إشارة إلى أن الكاتب أهم من السياسي. سواء كنا نعيش في الغرب، الذي بدأت هذه الظاهرة تختفي منه تدريجياً، بفضل تبدّل علاقة السلطة بصناع الرأي، أو كنا نعيش في عالمنا العربي الذي تكاد تستفحل فيه هذا الظاهرة، وتصيب العشرات، بل المئات، من الكتّاب الذين يستجدون رضا الأنظمة السياسية، أو يعلنون تأيدهم للقادة، أو يحاولون استرضاء هذا المسؤول أو ذاك.
وبصرف النظر عما إذا كان هذا الكاتب أو ذاك "شكسبيرين" أم لا، فإن السؤال يضعنا في المعادلة بين السياسي المغمور الذي يأتي وفق الأجندات المؤقتة، وبين الكاتب المبدع الذي يسجل استمرارية اللحظة الإبداعية.
يزعم الكاتب أن موقفه لا يشكل أي خطر على الثقافة العامة، في حال كانت علاقته بالسلطة شخصية، أو تقتصر على تبادل الزيارات. وقد تورّط العشرات من الكتاب العرب في علاقات "شخصية" مع الحكّام بدعم من هذه النظرية العليلة، أو بظن مريض يزعم فيه الكاتب لنفسه أنه قرين بلزاك، أو غوغول.
وحتى يتكرر التاريخ، كما يقول كونديرا، يجب أن يكون بلا حياء، بلا ذكاء، بلا طعم.
اقرأ أيضاً: مدن الواقع.. مدن الرواية