28 ديسمبر 2021
وجع الإنسان في مواجهة الطغيان
في بلادنا ووفق العادة والتقاليد العتيقة، كما المستحدثة، يطلقون على إدارات السلطة اسم دولة، وعلى عمليات الاقتراع "ممارسة ديمقراطية"، من دون أن تتوفر لهذه الممارسة مستلزماتها الضرورية: نضوج كامل شروط المواطنة، وحرية التعبير وطرح البرامج الانتخابية قبل عملية الاختيار والاقتراع، وسط "أعراس" من احتفاء الزعماء من أهل السلطة بناسهم الذين لا يتمتعون بأدنى حقوق المواطنة، بمعنى أنهم "مكتومو مواطنة" أي "لا مواطنون" يجري استبعادهم وسلخهم عن مواطنيتهم، والاعتداء على كل حق لهم، في وقتٍ قد لا يدرك كثيرون منهم معاني حقوقهم المفترضة ومبانيها، وأحقيتهم بالمطالبة بتلك الحقوق في ظل دولةٍ مدنية، وفي ظل مواطنةٍ لها ما لها وعليها ما عليها من حقوقٍ يسلبها أهل السلطة، ويقاتلون من أجل استبعادها واستمرار حال الاستبداد والطغيان، وتسييدها رائدة سلطةٍ قهرية، لم تعد تنتمي لعالم الناس العاديين/ البشر الطبيعيين، قدر انتمائها لتغوّل وحشي، تحاكي فيه ذاك التغول الوحشي لرأسمالٍ متعدّد الجنسيات، يتعولم بقوة التواطؤات وتوظيف التدفقات المالية والاستثمارية في إقامة شراكاتٍ زبائنيةٍ سياسية وتجارية، لا تعرف طريقا للحفاظ على أيٍّ من قيم الإنسان وأخلاقياته وكرامته.
في بلاد الناس، يكبر الوطن بمواطنيه، حين يمنحهم كامل حقوقهم الطبيعية الإنسانية، ويعطيهم كل حقوق المواطنة المتساوية بين أفراد الكل الوطني، لا فرق بين أهل السلطة، مهما علا
شأنهم، وأهل المجتمع الأهلي، على اختلاف طبقاتهم وانتماءاتهم وأطيافهم. ولكن في بلادنا يصغر الوطن بتشريعات ومشاريع قوانين "اللا مواطنية" والتحاصصات الطائفية والمذهبية والمناطقية الطاردة لقيم المواطنة من ألفها إلى يائها؛ مواطنة مغيبة بالقسر والإكراه، في وطنٍ منهوبٍ ومنكوبٍ ومركوبٍ سلطويا، في ظل معاناة أهله وتفقيرهم وتجويعهم وحرمانهم من كل حق لهم، يحلو في أعين أهل السلطة، ما يجعلهم يجيرونه لمصالحهم الشخصية والخاصة والزبائنية، وتقاسمه مع أناس لا علاقة لهم بالوطن، بقدر ما يريدون لهذا الوطن أن يكون من تحاصصات نفوذهم ونفوذ داعميهم ومشروعهم الإقليمي.
لهذا كانت وتكون ثورات وجع الإنسان في مواجهة الطغيان، طغيان السلطة والقيم التقليدية الاجتماعية والدينية والسياسية والعائلية/ القبلية والعشائرية والأسرية، في أبرز تجليات سلطويتها وطغيانها وعدم رؤية إنسان يتوجع، مجتمع مجروح يتألم، بلاد لم تعد أوطانا يعتد بها أصحابها، بقدر ما تحوّلت على أيدي الطغاة إلى مسرح للعبث بأقدار وحيوات الناس والتحكّم بمصائرهم ومصائر أبنائهم ومستقبلهم.
على أن "ديمقراطية" الاستعباد واستبعاد الناس، واستحضارهم مجرّدين من إنسانيتهم ومجرّد عدد قطيعي، استمر للأسف يهيمن زمنا طويلا، كونه شكل الممارسة الأرقى لـ "ديمقراطية الاستبداد" الذي أبدعت الزعامات القطيعية في محاولة فرضها وتسييدها في مملكة تحاصصات أرباب الطوائف والمذاهب، وأصحاب المال الحرام؛ الآتي على هودج السلطة القهرية، سلطة
استبعاد الناس واستعبادهم عبر "ديمقراطية" الاقتراع للزعيم، ومن لفّ لفه من زبانيته، وتقريره عنهم وصياغة شكل وظيفتهم المحدّدة مسبقا وجوهرها، وبقدرة قادر الزعامة يجري تأليهه، وبرضاهم يُساقون نحو عبوديتهم المختارة.
وجع الإنسان في مواجهة الطغيان، استدعى ويستدعي ثوراتٍ نقية وعفوية، ولو أنها غير منظمة، لكنها الأكثر تأثيرا، والأكثر انتشارا في عقر دار سلطات القهر وغلبة روح الاستبداد والاستئثار بكل شيء، وبكل الإدارات القائمة بمهمة التسلط ووظيفة السلطة، وما أفرزته وتفرزه من فسادٍ وإفساد عميمين، ليس بعيدا منهما وعنهما شخص الزعيم. وهذا هو حال أنظمة التحاصصات الطائفية والمذهبية، بتشجيع من نظام أو أنظمة إقليمية لها أطماعها ومخططاتها ومشروعاتها غير الخافية على المتابعين السياسيين والإعلاميين، وحتى الناس العاديين.
كان لا بد لنظام التحاصصات الطائفية والمذهبية من الانكشاف، وبدء انتظار سقوطه على أيدي ضحاياه، ضحايا سياسات "هندسته المالية" التي أسقطته بدورها، كنموذج طالما اعتبره هذا النظام رائدا، في منطقةٍ جرّبت وخربت فيها العديد من نماذج الهندسات السياسية، المطعّمة بميراثٍ من تقاليد طائفية، ذهبت في تمذهباتها أبعد من حدود المعقول والمحمول، وتجاوزت فيه حدود المواطنة والوطنية، وتركت تتلاشى بدورها لصالح أدوار خارجية إقليمية، لم ترعو دول الإقليم عن مراعاة حسابات حلفائهم وتحالفاتهم وأدوارهم الوطنية داخل بلدانهم، وأهمية إبقاء هذه البلدان موحدة، في مواجهة أعداء حقيقيين وجوديا، وما تتطلبه معركة إثبات الوجود والمقاومة الوجودية لهدف بقاء مواطني هذه البلدان، في أوطانهم أحرارا مستقلين، لا عبيدا مرتهنين لداخل يتجاهل كل دور وطني له، وهو يستجيب لأدوار وظيفية ووظائفية، تتحكّم بها مرجعيات الخارج الإقليمي، خشية أن يطاولها ما طاول اليوم لبنان وسورية والعراق، وقد طاولها وسيطاولها مع الوقت، جرّاء مواقف الاستعلاء والاستعداء والغلو بتقديس سياسات يزعم أصحابها أنها إلهية.
لهذا يصر أهل السلطة على إلهاب الشارع مجددا، كلما صعد واحدهم إلى المنبر أو ظهر
ليتحدث في تصريحٍ هنا أو لقاء هناك، والنتيجة إغلاق أهل السلطة كل طرق الحلول والمعالجات السياسية، في مقابل تصعيد لهجة خطاب الوعي السياسي الوطني في مواجهة خطابات طوائفيي السلطة وأهلها المضروبين بـ "متلازمة عمى السلطة"، العاجزة عن ابتداع أي حل لمشكلات الدولة التي أغرقتها كل أطياف السلطة في مآزق لم يعد من السهولة معالجتها من دون إطاحة رؤوس كبيرة كثيرة، ذهبوا بداية إلى إعلان إفلاس الدولة، في مقدمةٍ لإعلان إفلاسهم السياسي والأخلاقي، في عملية تكرار واجترار لعجز هذه السلطة المزمن عن قيادةٍ مهامها المفترض أنها عدة شغلها ومحور أشغالها واشتغالها، وإلا ما الذي جاء بهم إلى السلطة ليفعلوه؛ في وقتٍ يؤكدون فيه، منذ زمن طويل، أنهم خائبون خيبتهم الكبرى في القيام بوظائفهم المفترض أنها لخدمة كل الناس من أبناء شعبهم، لا بعض أبناء هذا الشعب ممن جرى ويجري تجهيلهم واحتسابهم على انتماء هوياتي ما قبل وطني، في وقتٍ يذهب السلطويون في اتجاهات أثبتوا عبرها إنهم مجيدون الإجادة الكبرى في القيام بخدمة ذواتهم الشخصية والعائلية والأسرية والزبائنية والطوائفية، من دون ما رقابة أو محاسبة أو حسيب. وكل هذا يستدعي أكثر من ثورة، ثورة على احتكار السلطة، وشراكاتها وتحاصصاتها، ثورة على طوائفية السلطة ومذهبتها، ثورة على التجويع وتفقير الناس، ثورة على حرمان الناس من كل حقوقها الطبيعية والإنسانية، ثورة على أهل السلطة من ناهبي المال العام والتصرّف به وكأنه ملكيتهم الخاصة، لا ملكية الشعب والدولة التي احتكروا هيمنتهم عليها، وكسروها قسرا وإكراها على مذبح أطماعهم في الاستيلاء على كل شيءٍ يمكنهم أن يمدوا أياديهم وأرجلهم إليه من أموال وعقارات وأراض. وهذا ليس حال السلطة السائدة هنا، بل هو حال كل السلطات السائدة في بلادنا العربية، وفي غيرها من أنظمة مشابهة، من دون استثناء.
في واقع كهذا، لا يمكن إنكار ضرورة بلورة وعي شعبي ووطني مضاد، يعمل على إطفاء نيران الغرائز الطائفية التي عمل السلطويون من كل الطوائف والمذاهب على تأجيجها، وإفشائها بين العامة، حمايةً لمصالح لهم، لم تستوف أيا من شروط الحق والعدل والنزاهة، ولا هي استوفت أو يمكن أن تستوفي شروط حيازة سلطتهم الجائرة لأي مواصفاتٍ يمكنها أن ترضي من أرادوا تمثيلهم، وإذ بهم يمثلون عليهم، مستديرين نحو الامتثال فقط لمصالحهم الخاصة، ولمن أرادوهم شركاء لهم في دويلة أو دويلات الزبائنية التي يجري إحلالها محل الدولة المفترضة، الجمهورية/ المدنية، الغائبة والمغيبة لدى سلطات محلية تسلم زمام أمرها لمرجعيات إقليمية كهنوتية أو دولية، تشجع على بث فوضى السلطويين، وأدوارهم الوظيفية الفتنوية، واستثمارها فخاخا وألغاما أمام ثورات شعوب عديد من بلداننا، على غرار ما يجري في لبنان والعراق، حيث تجاوز الوعي الشعبي كل المعوقات والسدود التي حالت دون إنضاج كامل مبادئ ومعايير وقيم ذاك الوعي المدني والوطني والإنساني الخلاق، الذي استجلبته ثورات الحراكات الشعبية، وهي تسعى إلى الخلاص من ربقة سلطات سياسية وكهنوتية، تتضامن في مسلكياتها التخريبية حد الهوس في عبادة وتقديس "متلازمة عمى السلطة"، أملا في البقاء والاحتفاظ بها، كونها الطريق الوحيد، إن لم يكن الأوحد، للاحتفاظ بمصالحهم ومواقعهم وأدوارهم ووظائفهم السلطوية.
لهذا كانت وتكون ثورات وجع الإنسان في مواجهة الطغيان، طغيان السلطة والقيم التقليدية الاجتماعية والدينية والسياسية والعائلية/ القبلية والعشائرية والأسرية، في أبرز تجليات سلطويتها وطغيانها وعدم رؤية إنسان يتوجع، مجتمع مجروح يتألم، بلاد لم تعد أوطانا يعتد بها أصحابها، بقدر ما تحوّلت على أيدي الطغاة إلى مسرح للعبث بأقدار وحيوات الناس والتحكّم بمصائرهم ومصائر أبنائهم ومستقبلهم.
على أن "ديمقراطية" الاستعباد واستبعاد الناس، واستحضارهم مجرّدين من إنسانيتهم ومجرّد عدد قطيعي، استمر للأسف يهيمن زمنا طويلا، كونه شكل الممارسة الأرقى لـ "ديمقراطية الاستبداد" الذي أبدعت الزعامات القطيعية في محاولة فرضها وتسييدها في مملكة تحاصصات أرباب الطوائف والمذاهب، وأصحاب المال الحرام؛ الآتي على هودج السلطة القهرية، سلطة
وجع الإنسان في مواجهة الطغيان، استدعى ويستدعي ثوراتٍ نقية وعفوية، ولو أنها غير منظمة، لكنها الأكثر تأثيرا، والأكثر انتشارا في عقر دار سلطات القهر وغلبة روح الاستبداد والاستئثار بكل شيء، وبكل الإدارات القائمة بمهمة التسلط ووظيفة السلطة، وما أفرزته وتفرزه من فسادٍ وإفساد عميمين، ليس بعيدا منهما وعنهما شخص الزعيم. وهذا هو حال أنظمة التحاصصات الطائفية والمذهبية، بتشجيع من نظام أو أنظمة إقليمية لها أطماعها ومخططاتها ومشروعاتها غير الخافية على المتابعين السياسيين والإعلاميين، وحتى الناس العاديين.
كان لا بد لنظام التحاصصات الطائفية والمذهبية من الانكشاف، وبدء انتظار سقوطه على أيدي ضحاياه، ضحايا سياسات "هندسته المالية" التي أسقطته بدورها، كنموذج طالما اعتبره هذا النظام رائدا، في منطقةٍ جرّبت وخربت فيها العديد من نماذج الهندسات السياسية، المطعّمة بميراثٍ من تقاليد طائفية، ذهبت في تمذهباتها أبعد من حدود المعقول والمحمول، وتجاوزت فيه حدود المواطنة والوطنية، وتركت تتلاشى بدورها لصالح أدوار خارجية إقليمية، لم ترعو دول الإقليم عن مراعاة حسابات حلفائهم وتحالفاتهم وأدوارهم الوطنية داخل بلدانهم، وأهمية إبقاء هذه البلدان موحدة، في مواجهة أعداء حقيقيين وجوديا، وما تتطلبه معركة إثبات الوجود والمقاومة الوجودية لهدف بقاء مواطني هذه البلدان، في أوطانهم أحرارا مستقلين، لا عبيدا مرتهنين لداخل يتجاهل كل دور وطني له، وهو يستجيب لأدوار وظيفية ووظائفية، تتحكّم بها مرجعيات الخارج الإقليمي، خشية أن يطاولها ما طاول اليوم لبنان وسورية والعراق، وقد طاولها وسيطاولها مع الوقت، جرّاء مواقف الاستعلاء والاستعداء والغلو بتقديس سياسات يزعم أصحابها أنها إلهية.
لهذا يصر أهل السلطة على إلهاب الشارع مجددا، كلما صعد واحدهم إلى المنبر أو ظهر
في واقع كهذا، لا يمكن إنكار ضرورة بلورة وعي شعبي ووطني مضاد، يعمل على إطفاء نيران الغرائز الطائفية التي عمل السلطويون من كل الطوائف والمذاهب على تأجيجها، وإفشائها بين العامة، حمايةً لمصالح لهم، لم تستوف أيا من شروط الحق والعدل والنزاهة، ولا هي استوفت أو يمكن أن تستوفي شروط حيازة سلطتهم الجائرة لأي مواصفاتٍ يمكنها أن ترضي من أرادوا تمثيلهم، وإذ بهم يمثلون عليهم، مستديرين نحو الامتثال فقط لمصالحهم الخاصة، ولمن أرادوهم شركاء لهم في دويلة أو دويلات الزبائنية التي يجري إحلالها محل الدولة المفترضة، الجمهورية/ المدنية، الغائبة والمغيبة لدى سلطات محلية تسلم زمام أمرها لمرجعيات إقليمية كهنوتية أو دولية، تشجع على بث فوضى السلطويين، وأدوارهم الوظيفية الفتنوية، واستثمارها فخاخا وألغاما أمام ثورات شعوب عديد من بلداننا، على غرار ما يجري في لبنان والعراق، حيث تجاوز الوعي الشعبي كل المعوقات والسدود التي حالت دون إنضاج كامل مبادئ ومعايير وقيم ذاك الوعي المدني والوطني والإنساني الخلاق، الذي استجلبته ثورات الحراكات الشعبية، وهي تسعى إلى الخلاص من ربقة سلطات سياسية وكهنوتية، تتضامن في مسلكياتها التخريبية حد الهوس في عبادة وتقديس "متلازمة عمى السلطة"، أملا في البقاء والاحتفاظ بها، كونها الطريق الوحيد، إن لم يكن الأوحد، للاحتفاظ بمصالحهم ومواقعهم وأدوارهم ووظائفهم السلطوية.